hajjahnews

سقوط استراتيجيات الردع الأمريكية المواجهة أمام الابتكار اليمني المتجدد

تقرير | وديع العبسي

لعقود ظلت أمريكا تروج لما تسميه باستراتيجيات الردع، بقصد تحقيق هذا الردع قبل الدخول في عمل عسكري مباشر، وبالتزامن وضمن سياسة التهويل والتضخيم ظلت تعتمد الكشف أحيانًا عن أسلحة بخصائص تزعم أنها استثنائية وخارقة، وأحيانًا عن تخصيص موازنة مهولة للجانب العسكري.

شاء مَن سحرتهم البهرجة الأمريكية الزائفة أم أبوا، فإن جولة استعراض القوة واختبارها خلال العامين الماضيين، وبشكل خاص في المواجهة مع اليمن، كشفت حقيقة هذه المنهجية في التهويل، وأثبتت أن النظريات والاستراتيجيات الدعائية وحدها لا تكفي.

مؤخرًا أقرت واشنطن بذلك، من خلال نشرها طائرات استطلاع وتجسس من طراز “RC-135S” “كوبرا بول” في منطقة الخليج العربي، وهي حسب التعريف الأمريكي طائرات متطورة، تعمل بأنظمة استشعار بالأشعة تحت الحمراء وأجهزة كهروضوئية عالية الدقة، قادرة على رصد وتتبع المقذوفات الباليستية وتحليل بياناتها لحظة الإطلاق، وتُستخدم عادة في مهام حساسة تتعلق بالإنذار المبكر ومراقبة التجارب الصاروخية.

الخطوة الأمريكية ومن حيث لا تدري حملت مدلول الإقرار بأن نظام عملها السابق في مواجهتها القوات اليمنية كانت فاشلة وعاجزة عن تحقيق الردع، وهو النظام الذي كانت تستند عليه في توزيع تهديداتها وتحذيراتها وإرهابها لأي دولة تطمح لرفع رأسها. إلى ذلك أيضًا تعكس هذه الخطوة تنامي المخاوف من القدرات الصاروخية اليمنية خصوصًا بعد ما ظهر منها خلال عمليات الدعم والإسناد لغزة من قدرة على تسجيل نقاط وانتزاع شهادات من عُقر الدار الأمريكي، بأن ضخامة الرقم “الدولاري” لقيمة السلاح لا تعني امتلاك الورقة الرابحة لحسم المعركة.

معركة الابتكار المتجدد
بالنسبة لهذا التطور في سياق التصعيد ضد اليمن، فإن أمريكا أثبتت به تفاقم حالة السذاجة المزمنة التي تعيشها، إذ تتصور أن هذا التحرك -الذي رافقه تسويق إعلامي لافت من قبل التائهين في الفَلَك الأمريكي- يمكن أن يرهب اليمنيين فيدفعهم لرفع راية الاستسلام، والأصل أن اليمن وانطلاقًا من “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْل”، ومن الوعي بحاجة مواجهة غطرسة الأعداء، ذهب منذ العام 2015 للإعداد من أجل حروب حديثة، وترجم هذه القناعة عمليًا بصواريخ متطورة وطائرات مُسيَّرة لم تفلح التقنية الأمريكية -بتاريخها الطويل- في رصدها واعتراضها سواء وهي تضرب السفن الإسرائيلية والمتعاونين معها والأساطيل الأمريكية الغازية أو تستهدف المواقع الحيوية في عمق الكيان.

السيد القائد أكد عليها مرارًا، أن عمليات التطوير للسلاح القادر على تجاوز التعقيدات، مستمر. ومنتصف أكتوبر أكد قائد الثورة أن مسار المواجهة مع الأعداء “حوّل التحديات إلى فرص، وكان مسارًا قائمًا على الابتكار”. وقال: جزء من المعركة مع الأعداء هو معركة الابتكار المتجدد في تجاوز ما بحوزتهم من تقنيات وإمكانات.

ووفق ذلك فإنه من ناحية امتلاك اليمن لأدوات الردع يعني أن استقدام واشنطن لأي من أسلحتها الصدئة لن يغير من الأمر شيئًا، وإنما قد يزيد من سقوط أوراق التوت عن قدراتها، فهي رغم امتلاكها أنواعًا من الأسلحة المتطورة جدًا، إلا أن هذه الأسلحة ظهرت في المعركة مع اليمن عبئًا ثقيلًا، لارتفاع ثمنها، ولفشلها في اعتراض السلاح اليمني، ما يشير إلى أن أمريكا لا تزال تعيش على ما أحدثته قدراتها في الحرب العالمية الثانية من إرهاب للعالم، حين ذهبت لإبادة مجتمعات بأكملها بأسلحتها التدميرية الشاملة، لكنها عجزت عن إدراك أن الحروب الحديثة باتت تتطلب أسلحة نوعية لا تتكئ إلى التهويل وإنما إلى قدرتها على تحجيم ما لدى الآخر وتضييق خياراته، وهذا تمامًا ما أبدع فيه التصنيع العسكري اليمني الذي نجح -بشكل ملحوظ أقرّ به كل العالم- في إيقاف الأسطورة الأمريكية التجسسية والهجومية (إم كيو ٩) عن استباحة الأجواء اليمنية، والأسطورة البحرية حاملات الطائرات عن استباحة المياه العربية والهيمنة على البحر الأحمر.

في السياق أيضًا يُشار إلى صواريخ (إس إم-2، و6) وهي من أفضل الأسلحة الدفاعية ضد التهديدات الحديثة. حسب موقع “ذا اسراتيجيست” التابع لـ“المعهد الأسترالي للسياسة الاستراتيجية”، مع ذلك تبقى قاصرة التأثير لجهة تحقيق أهداف استراتيجية تجعلها ذات جدوى، وقال موقع “ذا اسراتيجيست” إنه من المكلف للغاية نشر هذه الصواريخ الاعتراضية ضد سرب من طائرات الجيش اليمني المُسيَّرة رخيصة الكلفة، والمُنتَجة بكميات كبيرة، على الرغم من فعالية هذه الصواريخ. وقال الموقع: “بحسب التقارير فإن البحرية الأمريكية أطلقت بالفعل أكثر من 100 صاروخ من هذا النوع في البحر الأحمر، وتُظهر طلبات ميزانية البنتاغون لإعادة ملء هذه المخزونات ضغوطًا مالية”.

سقوط أعمق في الدونيّة
تؤكد الإمكانات العسكرية الأمريكية أن واشنطن ليست بحاجة لاتباع أسلوب الإرهاب بنشر سلاح ما هنا أو هناك، أو تعميم الحديث عن تقنيات بمقدورها اختراق طبقات الأرض، فاليمن أيضًا أثبت بأن لديه العقول القادرة على تجاوز أي تحديات من هذا النوع، بل وتحويلها إلى مادة للتندر، كما حدث مع طائرات الـ”إم كيو٩”، وحاملات الطائرات، والمنظومات الدفاعية الأمريكية الموزعة على طول المسار إلى خارطة كيان الاحتلال، فضلًا عن المنظومات ذات الطبقات المتعددة داخل الاحتلال.

وأمريكا أصلًا ومنذ تكوينها الأول لا تحارب بأخلاق، وإنما تتعمد استهداف التجمعات السكانية والمنشآت المدنية، ما يعني أن استعانتها بأسلحة أخرى فائقة مدمرة لن تضيف لها إلا مستوى أعمق من السقوط في الدونيّة.

استمرار تساقط الطائرات شاهد آخر
ما تحتاجه الدولة المارقة أمريكا اليوم، ليس المحاولات العبثية في إرهاب اليمنيين، وإنما البحث في واقع حالها، إذ تتعاضد المؤشرات لتؤكد بشكل قوي على أنها تعيش حالة من التراجع في سياقات متعددة داخلية وخارجية، على أن الجانب العسكري يظل الهَمّ الأكبر، خصوصًا وأن اعترافات قيادات عسكرية أمريكية سابقة وحالية تكشف الاهتراء الذي أصاب كثيرًا من أسلحة البنتاغون، فضلًا عن تراجع حجم الإنتاج. يحدث هذا رغم الميزانية الكبيرة التي يتم توجيهها غالبًا إلى محاولات الابتكار لنوعيات جديدة، وهو ما فشلت فيه فشلًا ذريعًا، بدليل عجزها -حتى اليوم- عن صناعة الصاروخ الفرط صوتي.

وأن يعيش “البنتاغون” الأمريكي أسوأ شعور بالقلق على واقع قدراته فلا يبدو الأمر غريبًا مع تنامي شواهد التراجع لخصائص ومميزات قدراته العسكرية.

خلال تحديها لكل القواعد القانونية والأخلاقية حاولت أمريكا -بدعمها المطلق للعدو الصهيوني في حرب الإبادة على غزة- إرسال رسائل إلى قوى كالصين وروسيا مفادها أنها لا تزال تمسك بخيوط العالم وتتحكم بمساراته، في محاولة لردّ التوجهات العالمية لخلق واقع متعدد الأقطاب لا تنفرد فيه بالصدارة، خصوصًا بعد أن تأكد أن سلوكها المنحرف في التعامل مع القضايا الدولية مسألة أصبحت تقلق السلم العالمي، وتُنذر بصراعات لن تُبقي ولن تَذَر. ما سعت له واشنطن من هذا التحدي والدعم المنفلت للكيان المؤقت انتهى إلى حصاد مخزٍ لا يحمل ما يمكن أن يؤثر في حسابات الصين وروسيا. ولم يكن موضوع نفاد مخزونها من الصواريخ هو فقط المقلق لوزارة الدفاع، وإنما أيضًا تراجع تأثير قدراتها على الردع والحسم.

مؤخرًا تناقلت المصادر الإعلامية حادثتَي سقوط لطائرتين تابعتين لحاملة الطائرات الأمريكية “نيميتز” أثناء إبحارها في بحر الصين الجنوبي، إذ أعلن أسطول المحيط الهادي التابع للبحرية الأميركية تحطم طائرة مقاتلة ومروحية تابعتين لحاملة الطائرات “يو إس إس نيميتز” سقطتا في بحر جنوب الصين بفارق 30 دقيقة بين سقوطهما، بينما تم إنقاذ أفراد طاقمَي الطائرتين، وتُعد هذه الحادثة مؤشرًا إضافيًا إلى الوضعية المتردية التي صارت عليه الآليات العسكرية الأمريكية. وفي مايو الماضي تسببت الهجمات اليمنية في البحر الأحمر بإرباك حاملة الطائرات “هاري ترومان” التي فقدت بوْصلة حركتها فتسببت بسقوط طائرتين من طراز F/A-18 من على متنها في حادثتين منفصلتين خلال أسبوع، وتبلغ قيمة الواحدة منها (60) مليون دولار، ومثل هذه الحوادث المُحرجة لـ”مكانة أمريكا العسكرية” تزيد من القناعة بحاجة أمريكا لأن تغادر لعب دور العسكري المتعجرف والالتفات إلى قواها التي لم يبق لها إلا السُمعة في نفوس من خارت قواهم.

فوضى وعجز أمام استمرار الحصار
الإصرار الأمريكي على لعب دور المقاتل بالوكالة نيابة عن كيان الاحتلال يأتي مع استمرار تداعيات الإجراءات اليمنية ضد العدو الصهيوني، وأهمها الحصار البحري الذي خلق داخل الأروقة المالية والسياسية في الكيان حالة من الفوضى والعجز لإنهاء الوضع القائم، مع تعبير بعض قادته -صراحةً- عن المخاوف من أن يتحول إلى أمر واقع لا مفر من التعايش معه. وخلال جلسة عقدتها لجنة المالية في “الكنيست الإسرائيلية” الأسبوع الماضي لمناقشة وضع ميناء أم الرشراش “إيلات” المغلق، والحلول المقترحة لإعادة تشغيله، قال رئيس بلدية “إيلات”: “عندما أسمع عن مسار النقاش، يبدو وكأننا سنُكرّس صورة إغلاق الميناء من قِبل الحوثيين.. ويجب ألا نُكرّس هذا الوضع. هذا غير منطقي.. يدين الميناء حاليًا بأكثر من 10 ملايين شيكل، وبصفتي رئيس البلدية، لا أعرف كيف أتعامل مع عجز بهذا المبلغ”.

أمريكا معنية بالامتثال لمقتضيات السلام إن كانت تريد خلق هذه البيئة حفاظًا على مصالحها وما بقي لها من سمعة، أما اليمن فمنطلقاته ثوابت لا يمكنه التنازل عنها، وهذه الثوابت تدفعه لأن يكون في مستوى القدرة على حمايتها بلا أدنى اعتبار لمن يقف في المواجهة، فالكل أمام الإيمان والإرادة مجرد “قش”.