ربيع النقيب
في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة التغيير وتتساقط فيه أقنعة الزيف، وتُعاد فيه كتابة خرائط النفوذ العالمية، يقف اليمن اليوم في قلب عاصفةٍ معركةٍ تتجاوز حدود الجغرافيا، عنوانها الأبرز هو السيادة الوطنية، وجوهرها العميق هو كسر مشروع الهيمنة الصهيونية–الغربية في المنطقة.
لم يعد اليمن مُجَـرّد ساحة تُدار بالوكالة، أَو مِلفًّا يُبحَثُ في كواليس الغرف المغلقة، بل تحوّل إلى معادلة فاعلة تفرض نفسها بثقلها على الإقليم والعالم، وتربك بشدة حسابات القوى التي طالما اعتبرت هذه البلاد خاصرةً رخوةً وممرًّا آمنًا لمشاريعها التوسعية.
إن قراءة ما يجري في اليمن بمعزل عن المشروع الصهيوني هي قراءة قاصرة، بل ومضلِّلة للحقائق التاريخية والجيوسياسية.
فَكَيان الاحتلال الإسرائيلي، وإن اختار أحيانًا التواري خلف ستار، كان ولا يزال المستفيد الأكبر والأكثر خبثًا من استنزاف اليمن وإبقائه ضعيفًا، منقسمًا، ومُصادَر القرار.
إن موقعَ اليمن الجغرافي، المُطلّ على أهم شرايين التجارة العالمية (باب المندب والبحر الأحمر)، يجعله حجر زاوية في أمن “إسرائيل” البحري والاقتصادي.
وعليه، فإن أي يمنٍ حرّ، مستقل، ومتماسك الإرادَة يشكّل تهديدًا وجوديًّا ومباشرًا لهذه المعادلة التي بُنيت على أسس الهيمنة والاحتكار الإقليمي.
من هذا المنطلق، لم تكن الحربُ الشرسة على اليمن مُجَـرّدَ حَدَثٍ عابِرٍ أَو نزاع محلي، بل هي حلقةٌ مفصليةٌ ضمن مشروع أوسع يسعى إلى تحييد أَو تدمير كُـلّ قوة إقليمية ترفض الاعتراف بالكيان الصهيوني أَو الخضوع لإملاءاته.
وحين فشلت أدواتُ الاحتواء السياسي والاقتصادي المُمنهج، كان لا بد من الانتقال إلى العدوان العسكري والحصار الظالم، كُـلّ ذلك تحت عناوينَ وشعارات مضللة وخادعة، هدفها الحقيقي كان ولا يزال كسر الإرادَة اليمنية وإعادة إنتاج الوصاية الخارجية بأشكال جديدة.
لكن ما لم تحسب له هذه القوى حسابًا دقيقًا هو أن اليمن، بعمق تاريخه، ووعي شعبه المُتراكم، وتجربته المريرة مع التدخلات، قد أنجب حالة مقاومة استثنائية أعادت تعريف الصراع وسمّت العدوّ باسمه الحقيقي الواضح.
وفي هذا السياق، لم تكن القوى الوطنيةُ التي تصدّت للعدوان مشكلة، كما حاول الإعلامُ المعادي شيطنتَها، بل كانت التعبير الطبيعي والمشروع عن رفض الاحتلال بأشكاله الجديدة، والحل الواقعي الوحيد الذي حال دون سقوط اليمن بالكامل في قبضة المشروع الصهيوني التفتيتي.
لقد أعاد اليمن، من خلال صموده الأُسطوري وثبات موقفه، تصحيح البُوصلة الاستراتيجية في زمنٍ اختلطت فيه المفاهيم وغُيِّبت فيه الرؤى.
فبينما هرولت أنظمةٌ عربية إلى التطبيع المُخزي وقدّمت أمن كَيان الاحتلال الصهيوني على كرامة شعوبها وسيادة أوطانها، ثبت اليمن على موقفه المبدئي، مُعلِنًا بوضوح أن العدوّ واحد، وأن القضية الفلسطينية ليست ورقة مساومة أَو مصلحة ظرفية، بل هي معيار شرف وكرامة وموقف للأُمَّـة بأسرها.
هذا الثبات العقائدي، قبل أي سلاح أَو عتاد، هو ما يرعب كَيان الاحتلال الصهيوني؛ لأَنَّه يكسر سرديتَه القائمة على الإذعان ويهدّد أمنه الاستراتيجي على المدى البعيد.
إن خطورةَ اليمن اليوم لا تكمن في قدرته على الصمود العسكري فحسب، بل في النموذج التحريضي الذي يقدّمه للعالم: نموذج شعب يُحاصِر جوعًا ودمارًا فلا ينكسر، ويُستهدف بعنف فلا يساوم على مبادئه، ويُقاتَل بضراوة؛ لأَنَّه يرفض أن يكون جزءًا من منظومة الخضوع الإقليمي.
هذا النموذج قابل للانتشار والتوسع، وهو ما تخشاه كَيان الاحتلال وحماته الغربيون؛ لأَنَّ سقوطَ وَهْمِ الهيمنة يبدأُ دائمًا من لحظة الوعي الجماعي ورفض الاستسلام، لا من مُجَـرّد ضربة عسكرية.
اليمن، وهو يخوض معركتَه المفتوحة، لا يدافعُ عن ترابه فحسب، بل يفتحُ نافذةَ أمل واسعة لأمة أُرِيْدُ لها أن تنسى عدوَّها الحقيقي وتفقد ذاكرتَها.
ومن هنا، فإن ما يجري ليس صِراعًا داخليًّا على سلطة زائفة، بل مواجهة تاريخية وحضارية بين مشروعَينِ متناقضَين: مشروع صهيوني استعماري قائم على الإخضاع، والتفتيت، والنهب، ومشروع تحرُّري قومي يرى في الاستقلال والسيادة شرطًا أَسَاسيًّا للكرامة والبقاء.
في هذه المعادلة الحاسمة، يثبت اليمن أن من يقفَ بصلابة في وجه كَيان الاحتلال لا يعزل نفسَه عن العالم، بل يعيد صياغة وتثبيت موقعه الحقيقي فيه، وأن من يختار المواجهة الواعية والمشرفة يصنع مستقبلًا لا يُرسم في عواصم الآخرين.
هكذا، يكتب اليمن فصله الخاص في تاريخ المنطقة، لا كضحية تنتظر العون، بل كلاعب أَسَاسي يعرف عدوه، ويعرف طريقه، ويدرك أن السيادة لا تُمنح كصدقة، بل تُنتزع قسرًا بحدّ السيف والإرادَة.
