hajjahnews

النفاق.. الخطر الصامت الذي يهدم الإيمان ويفكّك المجتمعات من الداخل

شاهر أحمد عمير

في كُـلّ عصر يتواجه فيه الحق مع الباطل، وتختل فيه الموازين، يبرز النفاق بوصفه أخطرَ الظواهر التي تصيب المجتمعات في صميمها.. فهو لا يأتي من خارج الصفوف، ولا يواجه الحق مواجهة صريحة، بل يتسلل من الداخل متخفّيًا بشعارات برَّاقة وأقنعة زائفة.

لذلك لم يكن النفاق مُجَـرّد سلوك فردي عابر، بل حالة فكرية ونفسية واجتماعية قادرة على هدم الأمم من الداخل دون ضجيج، وهو ما جعله في ميزان القرآن أشد خطرًا من الكُفر المعلَن؛ لأن الكافر معروف بعداوته، أما المنافق فيتسترُ بالإيمان وهو يحمل نقيضه.

حذّرنا الله من النفاق تحذيرًا بالغًا، حتى أفرد له سورًا كاملة، وكرّر الحديثَ عنه في مواضع متعددة، محذرًا من آثاره المدمّـرة، وكاشفًا صفات أهله، حمايةً للمجتمع المؤمن من الخديعة والاختراق.

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾، وهو توصيف بالغ الدقة يعكس حجم الجريمة التي يرتكبها المنافق؛ إذ لم يجعلهم الله في منزلة واحدة مع الكافرين، بل أنزلهم أسفل الدرجات لما في نفاقهم من خديعة وتخريب وتشويه للحق.

وفي عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ظهر النفاقُ بأوضح صوره وأكثرها خطرًا، خَاصَّة في المدينة المنورة بعد أن قويت شوكة الإسلام.

فقد وجد المنافقون أنفسهم عاجزين عن مواجهة الدعوة علَنًا؛ فلجأوا إلى التظاهُرِ بالإيمان وإبطان الكفر، ومارسوا أدوارًا خطيرة في التخذيل وبث الشكوك وإضعاف الصف الداخلي.

وقد كشف القرآن طبيعتَهم بوضوح حين قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾، في تصوير دقيق لازدواجية الموقف والكلمة.

ولم يقتصر خطر المنافقين في زمن النبوة على الأقوال، بل امتد إلى المواقف المصيرية، حَيثُ كانوا أول من يخذّل عند الشدائد، وأسرع من ينشر الإرجاف، وأحرص من يشكك في القيادة والقرارات.

قال الله تعالى محذرًا: ﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾، وهو تحذير يكشف أن الإرجاف كان ولا يزال سلاحًا خطيرًا يضرب المعنويات قبل أن يضرب الأجساد.

إن جوهر النفاق واحد في كُـلّ زمان، فهو ازدواجية في الموقف، وتلون في الخطاب، وتقديم للمصلحة على المبدأ.

وقد حذّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من علاماته الواضحة بقوله: «آية المنافق ثلاث: إذَا حدث كذب، وَإذَا وعد أخلف، وَإذَا اؤتُمن خان».

وهذه الصفات لم تكن حكرًا على زمن النبوة، بل هي ميزان دائم يكشف حقيقة السلوك الإنساني في كُـلّ عصر، وفي زمننا الحاضر، تغيّرت أدوات النفاق ولم تتغير حقيقته.

لم يعد المنافق بالضرورة ذلك الذي يجلس في الظل، بل قد يتصدر المشهد، ويتحدث باسم القيم، ويدّعي الحرص على الدين أَو الوطن، بينما يمارس التخذيل، ويبرّر الباطل، ويهاجم الحق بلباس النصيحة أَو الحياد.

هو ذاته المنافق الذي وصفه القرآن بقوله تعالى: ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إلى هَٰؤُلَاءِ وَلَا إلى هَٰؤُلَاءِ﴾، لا موقف ثابت ولا انتماء صادق.

في القرآن الكريم أن أصل النفاق ليس في المظهر، بل في القلب، في ضعف اليقين ومرض الضمير.

قال تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾.

فحين يتحوَّلُ الدينُ إلى مُجَـرَّد شكل، وتغدو القيمَ شعاراتٍ للاستهلاك، يصبح المجتمعُ مهيأً لانتشار النفاق مهما كَثُرَت مظاهَرُ التدين.

ولا يقفُ أثرُ المنافقين عند حدود الأفراد، بل يمتدُّ ليصيبَ المجتمع بأكمله، فيعطل مسيرة الإصلاح، ويشوّه القضايا العادلة، ويفتح الأبواب أمام الأعداء للتغلغل والسيطرة.

فهم أخطر في أوقات المواجهة، لأنهم يفتكون بالثقة، ويفكِّكون الصفَّ من الداخل دون أن يطلقوا رصاصة واحدة.

إن التحذيرَ من النفاق ليس دعوة للتخوين، ولا مبرّرًا لاتّهام الناس، بل هو نداء قرآني لمراجعة النفس، وتصحيح النية، والالتزام بالحق قولًا وفعلًا في السر والعلن.

فالمؤمن الصادق قد يضعُف، وقد يخطئ، لكنه لا ينافق، ولا يبيع ضميره، ولا يتلوّن مع المصالح.

ومن هنا، يصبح واجبًا على كُـلّ فرد أن يحذرَ أن يكون منافقًا من حَيثُ لا يشعر، وأن يزن أقواله ومواقفه بميزان القرآن، وأن يسأل نفسه دائمًا: هل أقول ما أؤمن به حقًا؟ هل أقف مع الحق ولو خالف مصلحتي؟ هل موقفي ثابت أم متغير بتغير الظروف؟ فهذه الأسئلة تمثل خط الدفاع الأول في مواجهة النفاق وحماية الإيمان من التآكل الداخلي.

ولذلك لم يفضح القرآن المنافقين عبثًا، ولم يشدّد التحذير منهم دون حكمة، بل ليبقى المجتمع واعيًا ومتّعظًا، مدركًا أن أخطر الأعداء هم أُولئك الذين يبتسمون في العلن، ويطعنون في الخفاء.

قال تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أنفسهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.