hajjahnews

عفّاش.. وثائق للخيانة بالصوت والصورة

بشير ربيع الصانع

قبل أن تتكشَّف خيوطُ الخيانة في المواقف والتصريحات، يضع وثائقي “صفقة على حساب القضية” المشاهد أمام مستوى أعمق من الانحدار، مستوى تُختزل فيه السياسة إلى صفقة، وتتحوَّل فيه السيادة إلى رقم، ويُقاس فيه القرار الوطني بقيمة التحويل المالي.

التسجيلات الصوتية التي عرضها الوثائقي لم تترك مساحة للشك؛ إذ وثَّقت مكالمة مسرَّبة بين علي عفاش وعبد الكريم الإرياني، يتحدث فيها بوضوح عن تفاصيل زيارته إلى السعوديّة ولقائه بـ عبد الله آل سعود، كاشفًا عن مقايضة سياسية مكتملة العناصر.

المبلغ كان محدّدًا بدقة: ثلاث مِئة مليون ريال سعوديّ، كثمن مباشر لموقف سياسي.

المقابل تمثَّل في امتناع علي عفاش عن حضور القمة العربية التاسعة عشرة التي عُقدت في دمشق عام 2008، في لحظة كانت فيها سوريا تمثل ثقلًا عربيًّا رافضًا لمسار التطبيع ومتموضعًا في قلب محور الممانعة.

الامتناع جاء استجابة لضغط سعوديّ مباشر، بعد توصيف القمة بأنها “مؤتمر إيراني” والمطالبة بالاصطفاف ضد دمشق وطهران.

هذا التسجيل يكشف بوضوح أنَّ القرار السياسي لم يكن يُصاغ وفق مصلحة اليمن أَو قضاياه، بل كان خاضعًا لمنطق الدفع والاستلام.

ثلاث مِئة مليون ريال مقابل غياب، وغياب مقابل كسر موقف ديني وعربي، وكسر موقف مقابل خدمة أجندات إقليمية معادية لقضايا الأُمَّــة.

في هذه اللحظة، عُدَّ القرار اليمني مُجَـرّد رهينة، وأصبح معروضًا للبيع، تُحدّد قيمته بحسب الجهة الدافعة، وتُصرف نتائجه، حَيثُ يُطلب.

فالمال كان المدخل، والاصطفاف كان النتيجة، أما القضايا العربية وفي مقدمتها فلسطين، فكانت الخاسر الأكبر.

ومِن هنا، يصبح ما سيأتي لاحقًا مفهومًا؛ لأَنَّ مَن اعتاد بيع الغياب، لن يتردّد في بيع الموقف، ومَن حوَّل السياسة إلى تجارة، لن يتورَّع عن تحويل القضية إلى ورقة مقايضة.

وما عُرض في وثائقي “صفقة على حساب القضية” كان أشبه بإزاحة ستارٍ ثقيل ظلَّ لسنوات يحجب حقيقة الدور الذي لعبه رأس النظام السابق في واحدة من أكثر القضايا حساسية في وجدان اليمنيين والعرب.

الوثائق والتسجيلات لم تترك مجالًا للتأويل، بل قدَّمت مشهدًا واضح المعالم عن سلطةٍ كانت تُجيد مخاطبة الجماهير بلغة، بينما تُدار خياراتها الفعلية بلغة أُخرى تمامًا.

على امتداد سنوات حُكمه، أراد علي عفاش أن يظهر كالزعيم المناور، الحريص على التوازنات، والمتقِن للعب على رؤوس الثعابين كما كان يُروَّج له.

غير أن ما تكشَّف يؤكّـد أن تلك “المناورة” تحوَّلت في مراحل متقدِّمة إلى ارتهان كامل لمحورٍ خارجي، أعاد رسم موقع اليمن ليكون تابعًا في معادلة لا تخدم شعبه ولا قضاياه.

قبل 2010 بسنوات، كانت بوصلته قد استقرَّت في اتّجاه واشنطن والرياض، ومعهما الكيان الصهيوني، ضمن مشروع أوسع يستهدف تطويع المنطقة، وكسر شوكة المقاومة، وتهيئة الأرضية لتقبُّل العدوّ في الفضاء العربي كأمر واقع.

الوثائقي قدَّم دلائل دامغة على استعداد النظام آنذاك لفتح أبواب التنازل في المحافل العربية والدولية، مقابل ضمان استمرار الدعم الخارجي وبقاء السلطة.

القمم العربية بدلًا عن أن تكون ساحة دفاع عن القضايا المصيرية، كانت مسرحًا لإدارة الرسائل المطلوبة، وضبط الإيقاع بما لا يزعج العواصم النافذة.

في هذا السياق، جرى التعامل مع فلسطين كورقة خطابية تُستهلك أمام الداخل، بينما يُفرَّغ مضمونها الحقيقي حين يحين وقت القرار.

التسجيل الصوتي للمكالمة مع خالد مشعل جاء ليحسم الجدل ويضع النقاط في مواضعها.

المكالمة التي سبقت قمة قطر 2009، في ذروة العدوان على غزة، كشفت موقع علي عفاش الحقيقي من الصراع.

في لحظة كانت تتطلب موقفًا عربيًّا ضاغطًا، ودعمًا سياسيًّا ومعنويًّا للمقاومة، جاء الرد صادمًا، خاليًا من أي التزام تجاه ما يجري على الأرض.

لا حماس لموقف موحَّد، ولا استعداد لتحمُّل كلفة سياسية في وجه العدوان، بل اتّجاه واضح لإفراغ القمة من أي محتوى قد يزعج المحور الداعم لكَيان الاحتلال.

والأكثر خطورة هو طبيعة الخطاب ذاته، بدلًا عن توجيه الإدانة للآلة العسكرية التي كانت تمزق غزة، انتقل الحديث إلى تحميل المقاومة مسؤولية ما يجري.

صواريخ حماس وُصفت في المكالمة؛ باعتبَارها عبئًا على الفلسطينيين، وذريعة تمنح كَيان الاحتلال هامشًا أوسع للاستمرار في القتل.

هذا الطرح كان ترديدًا شبه حرفي للرواية التي طالما استخدمها الاحتلال لتبرير جرائمه، لكنها هذه المرة خرجت من فم حاكم عربي.

وحين طالب علي عفاش بوقف إطلاق الصواريخ بشكل فوري، كان المشهد قد اكتمل.

لم يكن هناك حديث عن وقف العدوان أَو رفع الحصار أَو حماية المدنيين، بل للأسف كان تركيز مباشر على تحييد المقاومة وتجريدها من حق الرد.

في تلك اللحظة، كان الأمر انكشافًا لموقع اختار الاصطفاف، حَيثُ تكون الضغوط الغربية، لا، حَيثُ تكون دماء الأطفال والنساء.

هذه الوقائع، حين تُقرأ مجتمعة، تفسر كَثيرًا من المسارات التي عاشها اليمن في تلك المرحلة.

شعبٌ كان يُرهَق بالفقر والتهميش، بينما تُدار سياساته العليا لخدمة أجندات خارجية.

قضيةٌ مركزية كفلسطين كانت تُستخدم كعنوان للخطابة، بينما يجري تقويضها في الكواليس بهدوء.

نظامٌ أتقن اللعب بالأقنعة حتى سقط القناع الأخير بالصوت والصورة.

ما كشفه الوثائقي يحمل رسالة حاضرة، الوعي الذي يمتلكه اليمنيون اليوم تشكَّل من تراكم خيبات وتجارب وحقائق ظهرت متأخرة.

ولهذا، فإن الموقف اليمني الداعم لفلسطين في السنوات الأخيرة هو تعبيرًا عن قطيعة واعية مع مرحلة الخداع، واختيارا لموقعٍ لا يُدار من خلف الستار، ولا يُقايَض فيه الدم بالسلطة، ولا تُباع فيه القضايا مقابل البقاء.

وما خفي كان أعظم.. وللوقائع بقية، وللفضائح القادمة موعد.

{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَإيمَـانهِمْ ثَمَنًا قليلًا أُولئك لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخرة وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} صدق الله العظيم.