بين عشية وضحاها ودون أي مقدمات عملية، سجلت أسعار العملات الأجنبية تراجعا أمام العملة المحلية في مناطق اليمن المحتلة. المسألة أثارت الكثير من التساؤلات في أوساط القطاع التجاري والمواطنين على حد سواء، ما الذي حدث ليحصل هذا التغير المباغت؟ وهل يمكن الثقة بهذا الانقلاب المفاجئ لأسعار الصرف؟ وإذا كانت أسعار صرف العملات قد سجلت هذا الانخفاض السريع خلال أربعة أيام فقط.. فلماذا ارتفعت بشكل جنوني منذ تسعة أعوام؟ وتسببت بمعاناة وصلت بالمواطنين إلى العجز عن تأمين الحد الأدنى من متطلبات الطعام والشراب، وتوفير الاحتياجات الضرورية للحياة بشكل وصل معه المواطن إلى حد المجاعة بالمعنى الحرفي للكلمة!
لكن هذه الأسئلة وغيرها بقيت دون إجابة حتى اليوم، ما خلق موجة من الصراعات نتيجة تضارب المصالح التي خلقتها موجة الانخفاض غير المبرر لأسعار العملات الأجنبية في المناطق المحتلة، التحسن في أسعار الصرف تحول إلى معادلة اقتصادية معقدة لم تستطع حكومة المرتزقة تقديم تفسير واضح لها حتى الآن، وأصبحت مشكلةً شملت جميع فئات المجتمع، ابتداء من كبار الشركات، وانتهاء بالمهنيين وأصحاب الحرف الصغيرة.
ويشير خبراء اقتصاد إلى أن ما حدث من تراجع لأسعار العملات الصعبة في مناطق اليمن المحتلة يعد تراجعا وهميا، يقوم على أسباب سياسية لا علاقة لها بالعوامل الاقتصادية، وأن ما يحدث الآن لا يعدو كونه فقاعة اقتصادية قابلة للانفجار في أي لحظة، ومن ثم العودة إلى انتكاسة أكثر خطورة مما كان عليه الوضع سابقا في تلك المناطق. حيث أن قوانين الاقتصاد تتطلب توفير غطاء لكمية العملة التي قامت حكومة المرتزقة بطباعتها، والتي تقدر بخمسة ترليون وثلاثمائة مليار ريال، إلا أن ذلك الغطاء لم يتوفر حتى تسجل العملة المحلية في المناطق المحتلة، على أن عملية انخفاض الأسعار الحاصل حاليا يقود إلى تساؤلات عن حجم التلاعب الذي تعرضت له أسعار صرف العملات في مناطق اليمن المحتلة؟ وكيف تسبب ذلك التلاعب بمعاناة تفوق الوصف بالنسبة لأبناء اليمن في المناطق الخاضعة للاحتلال؟ وهي أسئلة مشروعة تؤدي بمجملها إلى محاكمة المسؤولين عما تعرض له المواطنون، والحق في حصول الشعب المتضرر على تعويضات نظير معاناته التي حدثت لأسباب عبثية، وليس نتيجة ظروف خارجة عن السيطرة، وهو ما تثبته حالة التحسن التي شهدتها العملة المحلية في تلك المناطق، فالارتفاع والانخفاض بلا سبب أمر يدعو للارتياب وعدم الثقة، وهو ما عبرت عنه كبريات شركات القطاع التجاري في البلاد، بما فيها شركات تابعة لحكومة المرتزقة مثل شركة النفط وشركة الغاز.
في 8 يوليو الماضي، أعلن البنك المركزي في عدن تثبيت سعر الدولار الأمريكي الواحد عند 2707 ريالات، وذلك ضمن نتائج آخر مزاد أسبوعي كان يمارسها لبيع العملات الصعبة للتجار، إلا أنه بعد مرور قرابة أربعين يوما من تاريخ آخر مزاد، انقلبت الأمور رأسا على عقب، حيث أخذت أسعار صرف العملات بالتراجع، وبعد أن كان سعر صرف الدولار الأمريكي يستعد لتجاوز حاجز 3000 ألف ريال في مناطق اليمن المحتلة، أخذت أسعار صرف العملات تتهاوى بشكل غير مبرر، أدت إلى حدوث حالة من الارتباك في الأوساط التجارية والاقتصادية، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى الاعتقاد أن حالة هبوط أسعار الصرف ليست نتيجة قرار داخلي، وأن هناك جهات دولية تقف خلف المشهد المباغت.
على أن إغلاق ستين محل صرافة في المناطق المحتلة لا يعتبر -من وجهة نظر المختصين الاقتصاديين- سببا كافيا لحدوث هذا الفارق دفعة واحدة، حيث توجد في تلك المناطق 249 منشأة صرافة مرخصة، ولا يمكن الاعتقاد -بأي حال من الأحوال- أن ستين محل صرافة كان سببا في انخفاض صرف العملات بنسبة تقارب النصف، وإذا كان الحال كذلك، فهل يعني إغلاق كل محلات الصرافة أن قيمة الريال الواحد قد ترتفع لتساوي دولارا واحدا في المقابل! إلا أن ما يحدث أخطر من ذلك بكثير، وهو يحصل لأسباب سياسية.
في 12 أغسطس الجاري، كشف المدير التنفيذي لمعهد واشنطن للدراسات، مسؤول المناصرة في الكونجرس الأمريكي، سيف المثنى، على حسابه في منصة (X) أن الولايات المتحدة تمارس ضغوطا على القطاع التجاري في اليمن، مضيفا أن واشنطن هددت بفرض عقوبات خلال 90 يوما على الشركات اليمنية لإجبار تلك الشركات على الانصياع بتخفيض أسعار السلع، والتخلي عن أي مخاوف أو تحفظات تجاه مسألة نزول أسعار العملات غير المبرر في مناطق اليمن المحتلة.
وبعد عمليات شد وجذب، كان القطاع التجاري يمتلك خلالها الكثير من المنطق، اضطرت شركات القطاع الخاص إلى إصدار قوائم مخفضة بأسعار السلع التي تبيعها خوفا من العقوبات الأمريكية.
لكن ما الذي دفع واشنطن إلى تغيير السياسات التي انتهجتها تجاه اليمن بممارسة حرب الاقتصاد والتجويع بغرض إذلال الشعب اليمني؟
ويعتقد مراقبون أن الولايات المتحدة تسعى -من خلال افتعال الفقاعة الاقتصادية في مناطق اليمن المحتلة- إلى محاولة كسب أكبر قدر ممكن من التأييد في إطار الاستعداد لتحريك الجبهة الداخلية ضد صنعاء، بعد أن أخفقت أمريكا في حملات القصف الجوي التي استهدفت اليمن في معركة إسناد غزة، فبعد أن جرّت واشنطن ذيول الخيبة وأعلنت عدم قدرتها على وقف الهجمات اليمنية على العدو الإسرائيلي وفتح طرق الملاحة البحرية التي أغلقها اليمن إلى موانئ العدو الصهيوني، أخذت الأوساط السياسية الأمريكية في تبني أفكار أخرى لتدعيم الخيارات العسكرية ضد اليمن، والتي كان آخرها تصريحات المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر، والتي قال فيها إن الولايات المتحدة تعمل حاليا على تأليب اليمنيين “العاديين” ضد من وصفهم بـ:الحوثيين”، بالاعتماد على أساليب أخرى في ظل عدم نجاح الخيارات العسكرية في التعامل مع صنعاء.
ويبدو أن الاندفاع الأمريكي للانتقام من اليمن أدى إلى وقوع واشنطن في جملة من التناقضات تفضح حقيقة التحكم الأمريكي بالوضع الاقتصادي في مناطق اليمن الخاضعة للاحتلال، والتسبب في معاناة أبناء اليمن، وإذا كانت واشنطن تستطيع إحداث هذا التعافي للعملة المحلية، فلماذا لم تقم بذلك منذ عشرة أعوام؟ تاركة الفقر والفساد ينهش في جسد الشعب المنهك، في حين يعتبر البعض أن تحسن أسعار الصرف بهذه السرعة هو دليل إدانة لتحالف الاحتلال الذي تقوده الولايات المتحدة ضد اليمن، وبما يدعو للضغينة على أمريكا وحلفائها ولا يدعو للامتنان، بما يعزز التفاف أبناء اليمن حول خيار صنعاء بمواصلة إسناد غزة، ويؤكد أن حالة تراجع أسعار الصرف لا تعدو كونها مناورة جديدة لتأليب الرأي العام لصالح العدو الأمريكي ــ الإسرائيلي، سرعان ما سيتخلى عنها تحالف العدوان في حال تمكن من تحقيق أهدافه المتمثلة في إسناد العدو الصهيوني في حرب الإبادة الشاملة التي يمارسها ضد أهل غزة، قبل أن يعود تحالف الاحتلال في اليمن إلى إستراتيجيته الأساسية القائمة على تجويع وإذلال الشعب اليمني.