محسن علي
حيث يلتقي الطين بعبق التاريخ وشموخ الإيمان في قلب وادي حضرموت (الخاضعة لسيطرة تحالف العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي وأدواتهم) شرقي اليمن، تتنفس مدينة تريم عبق التاريخ وتفيض بالعلم والعلماء، يقف معلم معماري شامخ يروي حكاية حضارة إيمانية متجذرة’ إنه مسجد المحضار الذي ظل نجمة معمارية إسلامية، ورمز للهوية اليمنية التي صُنعت من الطين والتقوى.
إن أبرز ما يميز هذا الصرح هو مئذنته الشاهقة، التي تلامس الغيم، لتكون أطول مئذنة طينية في العالم، شاهداً على إبداع الإنسان اليمني الذي حول الطين إلى تحفة فنية تاريخية تناطح السحاب, ومعلم جمع بين جلال العمارة وروحانية العلم.
المئذنة الشامخة.. إعجاز معماري من الطين
تُعد مئذنة مسجد المحضار هي السمة الأبرز التي جعلت منه معلماً عالمياً، ومقصداً للزائرين والباحثين.
أطول مئذنة طينية في العالم
يصل ارتفاع المئذنة إلى نحو 52.5 متراً (أو ما يعادل 175 قدماً)، مما يجعلها أطول مئذنة طينية في العالم, والغريب والمدهش في هذا الصرح هو أنه مبني بالكامل من الطين غير المحروق (اللبن) وجذوع النخيل، وهي مادة البناء التقليدية السائدة في وادي حضرموت, وبتصميم فريد تتميز المئذنة بشكلها الهرمي المربع، وتتكون من خمسة مستويات، إضافة إلى القاعدة والمستوى العلوي الذي يتحول فيه الشكل من المربع إلى المثمن، ويتوج قمتها الجوسق المكون من أربع قبيبات صغيرة, ويمكن الصعود إلى قمة المئذنة عبر سلم ضيق يبلغ عدد درجاته 140 درجة، يلتف بمحاذاة الجدران بشكل حلزوني .
عبقرية التصميم والتنفيذ
يعود الفضل في تصميم وتنفيذ المئذنة إلى عبقرية المعلم المعماري عوض سليمان عفيف وإخوانه التريميين، الذي قام بالبناء في حوالي عام 1333 هـ / 1914 م 1 4, وقد شُيدت المنارة على نفقة الأديب السيد أبو بكر بن شهاب، الذي وضع النظرية المعمارية الشهيرة التي تقول:
كل بيـت بثـلاث يـزدهي
في عيون المكتري والمشتري
الهـوا والنـور في داخـله
ومن الخارج حسـن المنـظر
وهكذا اجتمع خيال الشاعر وإبداع الفنان وجلال التقى ليصنعوا من الطين تحفة فنية تناطح السحاب .
المسجد.. فن هندسي ومركز علمي
يعود تأسيس المسجد إلى السيد عمر المحضار بن عبد الرحمن السقاف المتوفى عام 833 هـ / 1429 م، وقد مر بثلاث مراحل من البناء والتوسعة، آخرها التجديد الشامل الذي تم في عام 1333 هـ / 1915 م
الطراز المعماري والزخرفة
يتألف تخطيط المسجد من فناء مكشوف (صحن المسجد) تحيط به أربعة أروقة، أعمقها رواق القبلة الذي يزينه ثلاثة محاريب جصية بديعة، مزينة بالزخارف الهندسية والنباتية والكتابية، مما يعكس الفن المعماري التقليدي لوادي حضرموت, بينما وصلت مساحته الكلية بعد التوسعة إلى نحو 1575 متراً مربعاً.
مكتبة الأحقاف.. منارة العلم
يحتل الدور الأرضي من مبنى الجامع مكتبة الأحقاف، التي أُنشئت لتكون مستودعاً لكنوز المخطوطات في تريم والمدن المجاورة , وتأتي أهمية المكتبة من كون تريم تتمتع بمركز علمي مرموق منذ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، مما يؤكد أن المسجد لم يكن مجرد مكان للعبادة، بل كان مركزاً للإشعاع العلمي والمعرفي الذي يقصده طلاب العلم من كافة أرجاء العالم الإسلامي والعربي والدولي أيضا.
مسجد المحضار.. شاهد على الهوية اليمنية
يُعد مسجد المحضار رمزاً للهوية اليمنية الأصيلة، فهو يجسد التمسك بالمواد المحلية (الطين) في بناء صروح عظيمة، ويؤكد على أن الإبداع المعماري اليمني قادر على منافسة أحدث التقنيات’ إن هذا المعلم يمثل امتداداً للتاريخ الإسلامي في اليمن، ويشهد على مكانة تريم كـ “معقل العلم والعلماء” و”مدينة المساجد” التي قيل إن بها نحو 365 مسجداً ,حيث لا تزال عامرة بتدريس القرآن والعلوم الشرعية حتى اليوم.
المراجع:
-حسين أبو بكر العيدروس الموسوعة اليمنية الجزء الرابع مؤسسة الحقيق الثقافية صنعاء الطبعة الثانية، 2002
– مكتبة الأحقاف.
