تمر الأمة العربية والإسلامية بواحدة من أكثر لحظاتها التاريخية حساسية وعمقًا، لحظة تتكثف فيها التحديات، وتتقاطع فيها مشاريع السيطرة والهيمنة التي يقودها التحالف الصهيوأمريكي ضد هوية الأمة ووجودها، ومع اشتداد المواجهة في فلسطين، وبروز الوعي الشعبي كقوة صاعدة، تتجدد الأسئلة حول مستقبل الأمة، هل ما زال في الأمة ما يمكّنها من النهوض؟ وهل تستطيع الشعوب أن تتقدم الصفوف حين تغيب الأنظمة أو تنكفئ تحت الضغوط؟
تقرير / طارق الحمامي
هذا التقرير يقدّم قراءة تحليلية شاملة حول مؤهلات الأمة للنهوض، ودور الشعوب في قيادة الموقف بعيدًا عن الأنظمة الرسمية، ومجالات المواجهة الشاملة مع المشروع الصهيوأمريكي، مع تخصيص محورٍ يسلّط الضوء على القدوة النبوية في تحمّل المسؤولية والمبادرة بوصفها النموذج الأسمى الذي تحتاجه الأمة اليوم في معركتها الحضارية.
إن أهمية هذا التقرير تنبع من كونه لا يكتفي بتوصيف الواقع أو نقده، بل يحاول أن يستكشف مكامن القوة الكامنة في الأمة، ويعيد وصلها بجذورها التاريخية والرسالية، مؤكدًا أن النهضة ليست حلمًا بعيدًا، بل مسارًا واقعيًا يبدأ من الوعي، ويتجسد بالفعل الشعبي الواعي والمبادرة الرسالية.
مؤهلات الأمة للنهوض
رغم ما يحيط بالأمة من تفكك وضغوط، فإنها لم تفقد بعد مقوماتها الحضارية الكبرى التي تمكّنها من النهوض مجددًا.
ففي أعماق هذه الأمة ترقد ذاكرة مقاومة متجذرة، وإرادة متجددة قادرة على كسر قيود الضعف إذا ما أُعيد تفعيلها ووجهت نحو غاياتها الكبرى، فالإسلام بما يحمله من قيم العدالة والكرامة والوحدة، لا يزال يشكّل النواة الصلبة للوعي الجمعي العربي والإسلامي، وهو المرجعية التي تمنح الأمة الثبات في وجه التحديات، وتمنعها من الذوبان في مشاريع الهيمنة الثقافية والسياسية.
والشعوب العربية والإسلامية باتت تدرك أن الصراع مع العدو الصهيوني ليس صراعًا جغرافيًا فحسب، بل هو معركة وجود وكرامة وهوية، هذه الحقيقة جعلت الوعي الشعبي اليوم أكثر حدة ووضوحًا، وأقرب إلى الفهم العميق لطبيعة المعركة وأدواتها.
وكذلك نسبة الشباب العالية في مجتمعاتنا تمثل مخزونًا استراتيجيًا لأي نهضة مستقبلية، فهؤلاء يحملون أدوات العصر، من المعرفة والتقنية، إلى القدرة على التنظيم والتعبير والابتكار، وإذا ما وُجهت هذه الطاقة في الاتجاه الصحيح، ويتم بناءها بناءً إيمانياً يرسخ في الوجدان الوعي القرآني، يمكن أن تتحول إلى قوة تغيير شاملة
من غزة إلى جنوب لبنان، ومن بغداد إلى صنعاء، أثبتت الأمة أن الإرادة تتغلب على الإمكانات، وأن الوعي والإيمان يمكن أن يصنعا توازن ردع حقيقي أمام آلة الاستعمار والتطبيع.
الشعوب الحرة تنهض بنفسها في زمن الانكسار الرسمي
تاريخ الأمة المعاصر يؤكد أن الشعوب هي الحارس الحقيقي لقيمها ومقدساتها، وهي التي تستعيد زمام المبادرة كلما غابت الإرادة السياسية الرسمية أو انحرفت البوصلة.
لقد تحولت الأنظمة في كثير من الحالات إلى عبء على حركة التحرر، محكومة بالتبعية والارتهان، بينما ظلّت الشعوب تتحرك من وعيها الجمعي وإحساسها بالمسؤولية التاريخية، وهكذا، أخذت المبادرة الشعبية أشكالًا متعددة، في الميدان المقاوم، حيث تحملت الفصائل والحركات الشعبية عبء المواجهة العسكرية والسياسية في فلسطين ولبنان واليمن، وفي الميدان الشعبي والإعلامي، حيث انتقلت المقاومة إلى الفضاء الرقمي والإعلامي، عبر حملات المقاطعة والتوعية وكشف الجرائم الصهيونية للعالم، وفي الميدان الاقتصادي إذ بدأت تتشكل شبكات دعم ومقاومة اقتصادية من الناس العاديين الذين حوّلوا استهلاكهم إلى أداة نضال.
لقد أصبحت الشعوب اليوم أكثر وعيًا بقدرتها على التغيير، وأدركت أن الشرعية الحقيقية تنبع من الموقف، لا من الكرسي، وأن من يمتلك الوعي بالمصلحة العامة يمتلك حق القيادة وإن لم يحمل صفة رسمية.
المواجهة الشاملة مع المشروع الصهيوأمريكي
إن المشروع الصهيوأمريكي لم يعد يواجه الأمة بالسلاح وحده، بل بالعقيدة الثقافية والسيطرة الاقتصادية والإعلامية، ولذلك، فإن الردّ لا بد أن يكون شاملًا ومتكاملًا يشمل ميادين الوعي والسياسة والاقتصاد والثقافة، فعلى مستوى الميدان الفكري والإعلامي، فإن المعركة هنا هي على العقول، حيث ينبغي إعادة بناء الخطاب الإعلامي العربي والإسلامي على أساس كشف الحقائق، وتحليل الأحداث بوعي، وإحياء الثقة في الذات الحضارية للأمة والرجوع إلى مصدر الهداية الأول وهو القرآن الكريم، وفي ميدان الاقتصاد، فإن المقاطعة الشعبية أثبتت أنها سلاح فعّال يوجع العدو ومن يدعمه ويكبده الكثير من الخسائر،
وهذا الميدان من المواجهة الشاملة يؤكد أن الاقتصاد المقاوم ليس شعارًا، بل استراتيجية طويلة الأمد تستند إلى الإنتاج الذاتي وتقليل التبعية.
وفي ساحة الميدان السياسي، فإن المطلوب اليوم إعادة تعريف الشرعية السياسية في ضوء الموقف من قضايا الأمة، فالقوة لا تقاس بالتحالفات الخارجية، بل بمدى الالتزام بمصدر التشريع الاسلامي وموجهاته القرآنية في التعامل مع المخاطر ومعرفة العدو وأساليبه ووسائله بما يمكن الأمة من التحكم بزمام المبادرة وإدارة المواجهة في هذا الميداني بما يحقق مصالح الشعوب وهويتها واستقلالها.
أما في الميدان الثقافي والتربوي، فيجب إعادة بناء الإنسان على أساس الوعي والانتماء، وغرس قيم المسؤولية والحرية والوحدة والتمسك بالثوابت الدينية والوطنية في الأجيال الجديدة، فالتربية هي المعركة الأطول لكنها الأضمن في صناعة النهضة.
القدوة النبوية في المسؤولية والمبادرة
إن الحديث عن النهضة لا يكتمل دون العودة إلى القدوة الأعظم رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم، الذي واجه مجتمعًا ممزقًا بالجاهلية، فحوّله خلال سنوات قليلة إلى أمةٍ قائدةٍ للإنسانية، فهو من تحمّل المسؤولية منذ اللحظة الأولى، وما إن نزل الوحي حتى بدأ النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، بمشروع التغيير دون انتظار ظروف مثالية، انطلق من بيت صغير في مكة ليبني وعيًا عميقًا بالفكرة، ثم حوّل هذا الوعي إلى حركةٍ تغيّر الواقع، ولم يكن يمتلك جيشًا ولا دولة، لكنه امتلك الإيمان والرؤية، وكان يدرك أن التغيير يبدأ من الفكرة والمبدأ، لا من القوة المادية وحدها، وهكذا، سبق الفعلُ التمكينَ، وسبقت المبادرةُ النصرَ، وفي المدينة، أسس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، نموذجًا حضاريًا متكاملًا جمع بين العقيدة والسياسة والاقتصاد والاجتماع، وأثبت أن الرسالة لا تكتفي بالموعظة بل تُترجم إلى مؤسسات وعدالة واقعية، ولم يكن يأمر الناس بشيء إلا وكان أول العاملين به. شارك في بناء المسجد، وحمل التراب في الخندق، وربط على بطنه من الجوع، وهنا تتجلّى عظمة النموذج، وأن القيادة الحقيقية هي التي تبادر بالفعل لا بالأمر، وتخدم قبل أن تُخدَم.
إن استلهام هذا النموذج النبوي في المسؤولية والمبادرة هو ما تحتاجه الأمة لتتحول من حالة التلقي والانفعال إلى حالة الفعل والتأثير.
نحو مشروع نهضوي شامل
إن الأمة اليوم أمام فرصة تاريخية لتتحول أزمتها إلى انطلاقة، وملامح المشروع النهضوي المنشود لخصتها موجهات المسيرة القرآنية المباركة في عناصر بناء متكامل تبدأ من بناء وعي جمعي متحرر من التبعية والوصاية، وتمكين المبادرات الشعبية ذات الأبعاد التنموية والثقافية وتنمية الوعي وتعزيز القيم ودعم المقاومة بكل أشكالها، من خلال الوعي والإيمان.
إن النهوض لا يبدأ من القمم السياسية، بل من الضمير الشعبي الواعي، ومن المبادرات الصادقة التي تتغذى من قيم الإيمان والعدالة والحرية والوحدة،
يؤكد الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي في دروس من هدي القرآن الكريم بمناسبة يوم القدس العالمي ، أن الشعوب هي نفسها المتضررة، أما الحكومات, أما الزعماء فهم غير متضررين، هم غير مكترثين, لا يهمهم ما يرونه بأم أعينهم من المعاناة في مختلف بقاع الدنيا لجميع المسلمين، الشعوب هي التي تتضرر، الشعوب هي التي تلحقها الذلة والإهانة، الشعوب هي الضحية، وما لم تتجه الشعوب نفسها إلى أن تهتم بقضيتها، وتتعرف على أعدائها، وتعرف الحل والمخرج من مشكلتها ومصيبتها فلا تتوقع أي شيء آخر من زعمائها أو من غيرهم.
ختاماً
رغم كل التحديات، تبقى الأمة قادرة على النهوض ما دامت تمتلك وعيًا بهويتها، وإيمانًا بعدالة قضيتها، وقدوةً نبويةً تهتدي بخطاها.
لقد علمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن التغيير لا يصنعه عدد الجيوش، بل وضوح الهدف، وإخلاص النية، وبذل الجهد في سبيل الله والحق والإنسان.
واليوم، والشعوب ترفع رايات الوعي والمقاومة في وجه التحالف الصهيوأمريكي، يمكن القول إن عصر التبعية قد بدأ يتصدع، وأن زمن الشعوب المتمسكة بوعيها قد اقترب، وصدق الله تعالى القائل ((قلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي))
تلك هي البصيرة التي تحتاجها الأمة لتنهض، وتستعيد دورها الرسالي والإنساني في بناء حضارة العدل والحرية
