تسع سنوات تمضي على مجزرة الصالة الكبرى في صنعاء، وعشر على مجزرة عرس سنبان، لكن الذاكرة اليمنية لا تزال تنزف من جراحهما المفتوحة، والقلوب المكلومة ما زالت تحفظ ملامح تلك اللحظات السوداء التي دوّت فيها صواريخ الموت الأمريكية فوق رؤوس الأبرياء.
ليست هاتان الجريمتان مجرد حدثين عابرين في سجل العدوان، بل هما عنوانان داميان لوحشيةٍ فاقت الوصف، ووصمة عار على جبين تحالف العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي، الذي حول الأفراح إلى مآتم، والعزاء إلى محرقة بشرية، في مشهدٍ تجاوز كل القوانين والأعراف والقيم الإنسانية.
عرس سنبان.. فرحٌ يُذبح على أيدي الإجرام
في التاسع من أكتوبر 2015م، كانت قرية “سنبان” بمحافظة ذمار تستعد لليلة فرحٍ عارم، حيث كان الأهالي يحتفلون بزفاف عروسين من أبناء القرية، قبل أن يقتحم الطيران الأمريكي السعودي المشهد بصواريخه الموجهة، ليمحو الفرح في لحظةٍ ويزرع الحزن في كل بيت.
استشهد أكثر من خمسين مدنيًا معظمهم من النساء والأطفال، وأصيب العشرات، وارتوت الأرض بدماء الأبرياء في واحدة من أبشع الجرائم التي عكست سقوطًا أخلاقيًا وإنسانيًا غير مسبوق في تاريخ المنطقة.
تحولت القرية إلى مأتمٍ كبير، وتحوّلت الزغاريد إلى صرخات، وبدت الجريمة بمثابة إعلان صريح بأن العدوان لا يستهدف المقاتلين فقط، بل الحياة نفسها، وأن الحقد الأمريكي السعودي لا يعترف بفرحٍ ولا بحرمةٍ ولا بإنسان.
مجزرة الصالة الكبرى.. حين احترقت صنعاء بدموعها
بعد عامٍ واحد فقط من مجزرة سنبان، في الثامن من أكتوبر 2016م، اختار العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي هدفًا جديدًا: قاعة عزاء مكتظة بالمدنيين.
في لحظةٍ واحدة، سقطت الصواريخ فوق آلاف المعزّين الذين تجمعوا في القاعة الكبرى بصنعاء لتقديم العزاء في وفاة الشيخ علي الرويشان، ليتحوّل المكان إلى كتلةٍ من اللهب والدخان.
أكثر من 1000 شهيد وجريح، من بينهم أمين العاصمة عبدالقادر هلال وعدد من القيادات الوطنية، فيما تفحّمت أجساد العشرات وبُترت أطراف آخرين. كانت المجزرة صادمة للعالم كله، حتى لأشد المتواطئين، وأظهرت الوجه الحقيقي للعدوان الذي استهدف العزاء كما استهدف العرس، في رسالةٍ واضحة: لا أمان لمدني، ولا حرمة لدمٍ يمني.
جريمة حرب مكتملة الأركان.. واعتراف متأخر
الصور القادمة من القاعة الكبرى كانت كفيلة بفضح العدوان أمام العالم.
تدفّقت الإدانات الدولية، وأصدرت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية عشرات البيانات التي وصفت ما حدث بـ”جريمة حرب مكتملة الأركان”، فيما اعترفت قيادة التحالف – وتحت ضغط عالمي – بارتكاب الجريمة متذرّعةً بـ”الخطأ الفني”، وهو التبرير الذي زاد من فداحة الجريمة بدل أن يخففها.
منظمة هيومن رايتس ووتش أكدت أن القنابل المستخدمة كانت أمريكية الصنع من نوع GBU-12 Paveway II الموجهة بالليزر، ما يجعل واشنطن شريكًا مباشرًا في الجريمة قانونيًا وأخلاقيًا، خصوصًا أن القصف تم بإشراف غرف عمليات أمريكية وبريطانية.
العدالة الغائبة وهيمنة الجناة
رغم وضوح الجريمة واعتراف مرتكبيها، إلا أن العدالة ما زالت غائبة، لأن المنظومة الدولية نفسها خاضعة لهيمنة الجناة.
أمريكا وبريطانيا، رأس العدوان، تملكان حق النقض في مجلس الأمن، وتتحكمان في مسار القضاء الدولي، ما يجعل الحديث عن محاسبة المجرمين في إطار الأمم المتحدة أشبه بالعبث السياسي.
ورغم ذلك، يرى قانونيون يمنيون أن الجرائم لا تسقط بالتقادم، وأن مسار المطالبة بالمحاسبة يمكن أن يستمر عبر المحاكم الأوروبية التي تعتمد مبدأ الولاية القضائية العالمية، حتى وإن اصطدم بعائق الحصانات السياسية التي تمنح لكبار المجرمين.
ذاكرة لا تموت.. وشعب لا ينسى
ما زالت مجزرتا الصالة الكبرى وعرس سنبان حاضرتين في الوجدان اليمني، محفورتين في ذاكرة كل بيت، ترويهما الأمهات لأطفالهن كقصة دمٍ وصمود، وتستحضرهما وسائل الإعلام والناشطون في كل ذكرى كي لا يُدفن الألم في صمت النسيان.
هذه الذاكرة ليست للبكاء فقط، بل للتحريض على الوعي، ولتذكير العالم بأن دماء اليمنيين لن تُمحى، وأن العدوان الذي ظن أن جرائمه ستُنسى قد أخطأ التقدير، فاليمنيون يكتبون ذاكرتهم بدمائهم، ويحفظونها بوفائهم.
من الألم إلى القوة.. اليمن الجديد ينهض من تحت الركام
اليوم، وبعد أحد عشر عامًا من ثورة 21 سبتمبر المباركة، يقف اليمن على قدميه شامخًا رغم الجراح.
تحرر القرار السياسي من الوصاية الأمريكية السعودية، وتحوّل اليمن من ضحية العدوان إلى فاعلٍ في محور الردع الإقليمي، يواجه أمريكا و”إسرائيل” من موقع القوة لا الضعف، ويرسم بدماء شهدائه طريق التحرر والسيادة.
وهكذا، فإن مجزرة الصالة الكبرى لم تكن نهاية الألم، بل بداية الوعي، ومن تحت ركامها ولدت الإرادة اليمنية الجديدة التي آمنت أن الدم لا يُهزم، وأن الذاكرة الحيّة أقوى من كل محاولات الطمس والنسيان.
العدوان لن يفلت من الحساب
في ذكرى مجزرتي سنبان والصالة الكبرى، يتجدد العهد للشهداء بأن دماءهم لن تذهب سدى، وأن العدوان لن يفلت من الحساب مهما طال الزمن.
وستبقى تلك الجريمتان شاهدتين خالدتين على بشاعة العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي، وعلى صبر اليمنيين الذين حوّلوا الحزن إلى وعي، والمأساة إلى قوة، والدم إلى ثورةٍ لا تعرف الانكسار.