على مدار عقود، حاولت الحكومات اليمنية السابقة تصوير الجيش الوطني كقوة رائدة، قادرة على حماية السيادة الوطنية، وأن تسليحه متطور ومؤهّل لمواجهة أي تهديد. ولكن عند فحص الواقع العسكري قبل ثورة 21 سبتمبر، تتكشف الصورة الحقيقية: الجيش كان هشًا من الداخل، مفككًا على أسس قبلية وعائلية، يعتمد على أسلحة قديمة متهالكة، ويفتقر لأي استقلالية في اتخاذ القرار العسكري. هذا الواقع لم يكن مجرد قصور تنظيمي، بل نتاج سياسات منهجية أعادت تشكيل الجيش وفق مصالح القوى الخارجية، خصوصًا السعودية والولايات المتحدة.
هشاشة الجيش اليمني الداخلي
قبل عام 2014، لم يكن الجيش اليمني مؤسسة مهنية وطنية، بل شبكة معقدة من الولاءات السياسية والعائلية. اللواء الركن طيار عبد الله الجفري وصف الجيش بأنه أقرب إلى “عصابات مسلحة تابعة لمشايخ وعائلات”، مع قادة كثيرين لم يكونوا متواجدين فعليًا في اليمن، بل يعيشون في دول خليجية وأوروبية ويتلقون رواتبهم فقط. هذه الهيكلية أضعفت الانضباط العسكري وأفسدت قدرة القيادة الموحدة على اتخاذ قرارات تكتيكية أو استراتيجية.
العميد عابد الثور أشار إلى أن أكثر من 60% من قادة الجيش كانوا من نفس قادة الجيش الملكي السابق، الذين تربطهم علاقات خارجية قوية، ما عزز نفوذ القوى الأجنبية داخل المؤسسة العسكرية. هذه الشبكة من الولاءات جعلت الجيش غير قادر على حماية حدوده أو الدفاع عن الأجواء الوطنية، وفسحت المجال أمام تدخل مباشر للملحق العسكري السعودي والمخابرات الأمريكية.
اعتماد التسليح على الخارج
الجيش اليمني قبل الثورة كان يعتمد على أسلحة تقليدية قديمة، بعضها خرج عن الخدمة في الدول المصنعة، دون أي برامج تطوير أو تحديث جوهري. دبابات BMP 1 وBMP 2، صواريخ SAM 5، وطائرات F5 أمريكية كانت تشكل العمود الفقري للقوات المسلحة، لكن الكثير منها كان صلاحيته للتدريب فقط. العميد عابد الثور أشار بوضوح إلى ضعف التسليح، وغياب أي قدرة على الاعتماد على أسلحة محلية أو تطوير صناعات استراتيجية.
تحليل هذه الحقائق يظهر أن التسليح لم يكن لتعزيز القدرات الدفاعية، بل لضبط الجيش وقياداته، مع إبقائه ضعيفًا وغير قادر على مواجهة أي تهديد. أي محاولة لبناء قوة دفاعية وطنية، مثل مشروع الرئيس إبراهيم الحمدي، كانت تُواجه بالمقاومة المباشرة، وانتهت باغتياله لضمان إعادة الجيش تحت النفوذ السعودي الأمريكي.
تفكيك القوات الجوية والدفاع
القوات الجوية والدفاع الجوي، والتي تعتبر خط الدفاع الأول عن أجواء البلاد، تعرضت لتفجيرات متعمدة وأعمال تخريب بين 2011 و2014. حادثة تفجير طائرة أنتونوف في قاعدة العند أدت إلى مقتل طيارين، وتفجير أربع طائرات حربية في قاعدة الديلمي وسط غموض كبير حول الجهات المسؤولة، تشير بوضوح إلى وجود عمليات تفكيك ممنهجة للقوات الجوية.
على صعيد الدفاع الجوي، جرى تدمير آلاف الصواريخ الدفاعية، تحت إشراف ضباط أمريكيين وأردنيين، ضمن عمليات ما سُمّي “هيكلة الجيش اليمني”، لكنها كانت في الحقيقة خطوة لإضعاف قدرة اليمن على حماية أجواءه الوطنية. هذه العمليات كانت تتم بتواطؤ النظام السابق، دون أي مقاومة، بل مع تعاون كامل لإرضاء الضغوط الخارجية.
الحدود والاستباحة الأجنبية
الحدود اليمنية مع السعودية كانت شبه مفتوحة، والوحدات العسكرية الموجودة على الأرض كانت ضعيفة العدد والتجهيز، وأغلبها تحت سلطة مشايخ موالين للوصاية السعودية. تصريحات علي عبد الله صالح تكشف حقيقة هشاشة الجيش حين قال إن الحدود كانت خالية تقريبًا من أي وجود عسكري قوي، وأن السعودية تدخل وتخرج وقتما تشاء دون رادع.
أما الأجواء، فقد استباحتها الطائرات الأمريكية دون أي اعتراض، حيث صرح صالح على نحو واضح: “الطائرات تأتي من السماء، أيش نعمل؟”، مما يعكس العجز التام عن حماية السيادة الجوية، ويؤكد تبعية القرار العسكري لهيمنة خارجية كاملة.
السيطرة على القرار العسكري
قبل الثورة، الملحق العسكري السعودي والمخابرات الأمريكية كانوا يتحكمون في كل كبيرة وصغيرة داخل الجيش اليمني، بدءًا من التعيينات والبعثات العسكرية، وصولاً إلى التخطيط الاستراتيجي وإدارة التسليح. الجيش لم يمتلك القدرة على اتخاذ أي قرار مستقل، فكل عمليات غربلة الأسلحة، تدمير الصواريخ، وتصفيات الكوادر العسكرية تمت وفق توجيهات خارجية مباشرة. اغتيال ضباط القوات الجوية، مثل اللواء الطيار عبد الله صالح النعماني عام 2012، وحوادث سقوط الطائرات الحربية بين 2011 و2014، تؤكد وجود تآمر ممنهج لإضعاف الجيش وإزالة أي كادر قادر على إعادة بناء قوة وطنية مستقلة.
التحول بعد الثورة
مع الثورة، تغيرت قواعد اللعبة بالكامل. الجيش اليمني أعيد بناؤه على أسس وطنية وإيمانية، بعقيدة دفاعية متكاملة وهوية يمنية مستقلة. تم تصنيع وتطوير الصواريخ والطائرات المسيرة محليًا، بما في ذلك صواريخ فرط صوتية وباليستية بحرية وأرضية، مثل صاروخ “حاطم 2”، وصواريخ بحرية محلية، وقدرات هجومية دقيقة ضد السفن والمواقع الاستراتيجية.
الطائرات المسيرة “قاصف-1” و”صماد 2 و3 و4” و”وعيد 1 و2 و3” تجاوزت الدفاعات الجوية للعدو، ما أثبت تفوق اليمن تقنيًا واستراتيجيًا. الدفاعات الجوية متطورة، مع رادارات دقيقة وصواريخ متوسطة وبعيدة المدى، لتعزيز الردع الوطني، إلى جانب تطوير صناعات عسكرية محلية 100% تقلل الاعتماد على الخارج.
تحليل هذا التحول يوضح أن الثورة أعادت للجيش قدرته على اتخاذ قرارات سيادية، حماية الحدود والأجواء، وتوجيه العمليات العسكرية وفق المصالح الوطنية، بعيدًا عن أي وصاية أو تبعية خارجية.
خاتمة واستنتاجات استراتيجية
التحليل الاستراتيجي يظهر بوضوح الفارق بين مرحلة ما قبل الثورة وما بعدها: قبل 21 سبتمبر، الجيش كان هشًا، مفككًا، واتباعيًا للوصاية الأجنبية، مع تسليح محدود ومتهالك، وغياب أي قدرة على اتخاذ قرار مستقل. الثورة أعادت بناء الجيش، وجعلته قوة ردعية استراتيجية، قادرة على حماية السيادة، وتطوير صناعات دفاعية محلية مبتكرة، وممارسة القرار العسكري والسياسي بشكل مستقل.
اليمن اليوم يمتلك جيشًا قادرًا على فرض الردع، استعادة الدور الإقليمي، والمساهمة في قضايا الأمة الكبرى، بعد أن تم القضاء على أي شكل من أشكال الوصاية والتبعية التي كانت تحدد مسار الجيش وقراره لسنوات طويلة.