تقرير | يحيى الربيعي
في مشهد دراماتيكي يكشف عن عمق الأزمة التي تعصف بأروقة السلطة الموالية للتحالف في عدن، تتسارع الأحداث بوتيرة عالية خلف الأبواب المغلقة، حيث تدار “طبخة” سياسية جديدة تعيد تشكيل خارطة النفوذ في مناطق الجنوب والشرق اليمني.
وتشير المعلومات القادمة من كواليس الغرف المغلقة في عدن، إلى وصول وفد سعودي-إماراتي رفيع المستوى، شرع فور وصوله في عقد سلسلة اجتماعات مكثفة مع قيادات ما يسمى بـ”المجلس الانتقالي” وقيادات عسكرية أخرى؛ بهدف صياغة مشهد جديد للمرحلة المقبلة، حيث كشف مصدر سياسي مطلع -فضل عدم الكشف عن هويته- عن توافق أولي يجري إنضاجه لإعادة هيكلة ما يسمى بـ “مجلس القيادة الرئاسي”، وهي الهيكلة التي قد تطيح برشاد العليمي من رئاسة المجلس، استجابةً لمتغيرات الواقع العسكري والسياسي الذي فرضته السيطرة الأخيرة للقوات المحسوبة على الانتقالي في وادي حضرموت والمهرة.
وتتضمن الخطة المطروحة على طاولة المفاوضات تقليص عدد أعضاء المجلس وإعادة توزيع الصلاحيات لضمان “سلطة تنفيذية متوافقة مع الأرض”، بالتوازي مع ترتيبات ميدانية صارمة تقضي بانسحاب قوات الانتقالي من حضرموت والمهرة وعودتها إلى ثكناتها السابقة، لتحل محلها قوات ما يسمى بـ “درع الوطن” في المهام الأمنية، وانتشار “النخبة الحضرمية” لتأمين المنشآت الحيوية، في خطوة تهدف -بحسب المصادر- لامتصاص الغضب الشعبي في تلك المحافظات ومنع انفجار الوضع عسكرياً.
وفي خضم هذه الترتيبات، حاول المدعو “مستشار مكتب الرئاسة، الدكتور ثابت الأحمدي”، تسويق صورة وردية للمشهد، مشيداً بالجهود السعودية ومؤكداً أن “المسودة الأولى” لعودة القوات باتت شبه جاهزة، وأن هناك “توافقاً تاماً” وتفهماً لخروج هذه القوات، مرجعاً الفضل إلى “حكمة الأشقاء” ودورهم الحاسم، في حين أشار ضيوف آخرون إلى أن هذه الآلية تهدف لتدارك التداعيات الاقتصادية الكارثية وتدهور العملة الذي قد يعصف بما تبقى من استقرار هش، معتبرين أن الضمانات السعودية هي “صمام الأمان” الوحيد لمنع تجدد الصراع.
وعلى الضفة الأخرى من المشهد، وبينما تغرق عدن في وحل الأزمات المعيشية وصراعات النفوذ، خرج عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي، بتصريحات صادمة لصحيفة “ذا ناشيونال” الممولة إماراتياً، معلناً عن استعداد دولته “المفترضة” للتطبيع الكامل مع الكيان الإسرائيلي، معتبراً أن الانضمام إلى “اتفاقيات أبراهام” سيكون مفتاحاً للاستقرار في المنطقة. وفي سقطة سياسية وأخلاقية، ربط الزبيدي استقلال الجنوب بمقايضة رخيصة مع الاحتلال الصهيوني، قائلاً: “عندما تكون لدينا دولتنا سنتخذ قراراتنا بأنفسنا وسنكون جزءاً من هذه الاتفاقات”، متجاهلاً الدماء التي تسفك في غزة والموقف الشعبي اليمني الجامع الرافض للكيان الغاصب.
وقد قوبلت هذه “الهرولة” نحو التطبيع باستهجان واسع من قبل المراقبين والشارع الجنوبي، حيث وصف الكاتب والناشط السياسي صلاح السقلدي هذه التصريحات بأنها “جانبت الصواب والمنطق والمواقف الإنسانية”، مؤكداً أنها تضر بالقضية الجنوبية وتفتح باب المزايدة عليها، متسائلاً عن الجدوى من استعداء الشعوب العربية والإسلامية في لحظة تذبح فيها فلسطين من الوريد إلى الوريد، لمجرد وهم الحصول على دعم من كيان منبوذ دولياً. واتفق معه الكاتب أحمد حميدان الذي اعتبر أن هذا الخطاب يعكس “انتهازية” القيادات التي تبحث عن أي مظلة خارجية تبقيها في السلطة، ولو كان ذلك عبر بوابة تل أبيب، مؤكداً أن هذه القيادات “لا تمثل طموحات الناس ولا قيمهم”.
هكذا يبدو المشهد في المناطق المحتلة؛ صراع محموم على كعكة السلطة تديره أطراف خارجية، وقيادات منفصلة عن واقعها تعرض الولاء للكيان الصهيوني بحثاً عن شرعية مفقودة، بينما يظل المواطن هو الضحية الأولى لغياب السيادة وارتهان القرار السياسي.
وقد أماطت صحيفة “التايمز” البريطانية اللثام، في تقرير لها اليوم، عن وجود اتصالات مباشرة ومكثفة بين مسؤولين صهاينة وممثلين عن مليشيات “الانتقالي” المدعوم إماراتياً، مؤكدة أن ما يجمع الطرفين ليس مجرد مصالح سياسية، بل “قضية مشتركة” تتمثل في العداء لقوات صنعاء؛ تلك القوة التي باتت تؤرق تل أبيب بصواريخها ومسيراتها التي دكت عمق الكيان الغاصب نصرةً لغزة.
وبحسب الصحيفة البريطانية، فإن قيادات الانتقالي لم تكتفِ بالتلميح، بل باتت تلوح بورقة “الاعتراف بإسرائيل” فور إعلان ما تسميه “استقلال الجنوب”، مقدمةً سيادة الأرض وقيم الأمة قرباناً على مذبح المصالح الضيقة، وطمعاً في كسب دعم إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتوسيع نطاق التطبيع، في مقايضة صريحة: “الاعتراف مقابل الانفصال”. وتتطابق هذه المعلومات مع ما سربته وسائل إعلام إسرائيلية سابقاً عن زيارات سرية قام بها وفود أمنية وعسكرية صهيونية إلى مدينة عدن الواقعة تحت سيطرة تحالف العدوان، لترتيب هذا التحالف المشبوه.
هذا الارتماء العلني في أحضان الكيان، يتجاوز كونه مناورة سياسية ليعكس حالة متقدمة من “التطويع” الذي حذر منه السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي (في ذكرى الشهيد القائد 1439هـ)، حيث تتجلى الاستراتيجية الأمريكية-الإسرائيلية في أقصى صورها؛ إذ لم يعد الهدف مجرد السيطرة العسكرية، بل تحويل الأمة وشعوبها إلى كيانات مطيعة، مذعنة، تتجند للقتال في صف العدو ضد نفسها، وضد قيمها، وضد مصالحها الحيوية.
ويبدو المشهد في المحافظات المحتلة تجسيداً حياً لهذه الرؤية، حيث اتجهت الهجمة الاستكبارية الغربية لتفعيل أدوات “التطويع” عبر تعميم دائرة العمالة، لتصبح حالة شاملة لا تقتصر على الأنظمة، بل تسعى لاختراق الأوساط الشعبية، مستخدمة في ذلك ترسانة ضخمة من ضغوط المال والإغراء، وسياط التجويع والإرهاب، والضخ الإعلامي الممنهج الذي يستهدف حتى “الفئة الصامتة” التي آثرت القعود، فلا يُترك أحد لشأنه؛ فإما أن تكون جزءاً من ماكينة العمالة، أو تصبح هدفاً للملاحقة والتخوين.
وفي هذا السياق، تبدو التحركات السعودية الأخيرة لإعادة هندسة “الشرعية” المزعومة في عدن، وتقليص صلاحيات العليمي لصالح قوى أكثر “مرونة” أو دمجاً في المشروع الإقليمي، جزءاً لا يتجزأ من مخطط أوسع يهدف لتصفية القضية الفلسطينية والمتاجرة بها في بورصة الحسابات الدولية. فالمطلوب إقليمياً ودولياً هو أدوات طيعة تنفذ الأجندة بحذافيرها، وتعتبر أي صوت حر ينادي بالسيادة والاستقلال “مارقاً” يجب استهدافه.
إن المفارقة الصارخة التي يفرزها المشهد في اليمن اليوم، تضع الجميع أمام اختبار الحقيقة: مشروع في صنعاء يتبنى “التوجه الحر” والقرار المستقل ويرفض أن تكون اليمن حديقة خلفية للأمريكي والإسرائيلي، ومشروع آخر في عدن يتسابق قادته لتقديم فروض الطاعة، وتحويل الجغرافيا اليمنية إلى منصة متقدمة لحماية أمن “إسرائيل”. وكما يشير الواقع، فإن المعركة الحقيقية لم تعد مجرد صراع على السلطة، بل هي معركة وجودية بين من يريد لليمن أن يكون عزيزاً مقتدراً، وبين من يريد “تطويع” كل أبناء المنطقة لخدمة المشروع الصهيو-أمريكي.
