في حضرة ذكرى المولد النبوي الشريف، ذكرى ميلاد الرسل المصطفى صلوات الله عليه وآله، تتجلى أمامنا فرصة عظيمة لمراجعة الذات وتقييم واقع الأمة الإسلامية. هذه المناسبة ليست مجرّد احتفاءٍ تاريخي، بل محطة مراجعة كبرى لمسار أمةٍ تمرّ بمرحلة من أدقّ المراحل وأخطرها؛ مرحلة تعصف بها الانقسامات، وتنهش جسدها الصراعات، وتثقل كاهلها الأزمات والمحن. وهنا يبرز السؤال الملحّ: إلى أين تمضي هذه الأمة؟ وأي بوصلة تهديها؟. إنها لحظة مراجعة تعيد للأمة بوصلتها المفقودة، وتدعوها إلى تصويب المسار الذي انحرف في كثيرٍ من محطاته، حتى صار ثمن هذا الانحراف فادحاً يُدفع من رصيد الأخلاق والقيم والمبادئ، وينعكس في صورة خذلانٍ وتراجعٍ وضعفٍ يطال كل شؤون الحياة.
إن انحراف المسار، مهما بدا بسيطًا، سرعان ما تتحول تبعاته إلى كوارث عظيمة، تدفع الأمة ثمنها من دينها وقيمها، ومن مبادئها وأخلاقها. ولهذا فإن التصويب واجب، والتصحيح ضرورة، ولا بد أن يكون منطلقه الأساس: الهوية الإسلامية. هوية تعرّفنا من نحن، وما مشروعنا كأمة، وما هي معالم ذلك المشروع، ومن هو القدوة والقائد والملهم الذي نستحضر عظمته لنستعيد رشدنا، وهو بلا ريب رسول الله محمد، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين.
واقع الأمة اليوم شاهد على انحرافات جسيمة: قومٌ ارتضوا لأنفسهم حمل راية الطاغوت الأمريكي والإسرائيلي، فاندرجوا في مشاريع الظلم والعدوان، وتحوّلوا إلى أبواق للنفاق وفتيلٍ للفتنة. وآخرون آثروا الصمت والركون، حتى بدوا كأنهم براء من المسؤولية، غير مبالين بأمةٍ تنزف في كل جبهة، وتئن تحت وطأة المآسي.
إنها مفارقة قاسية؛ أمةٌ أنعم الله عليها بدين الحق، فإذا بها تتساهل في حمل أمانته، وكأن مبادئ العدل والقسط والكرامة التي جاء بها الإسلام غدت في نظر البعض شعارات قابلة للمساومة.
لكن المرجع الحقّ في كل ذلك هو رسول الله صلوات الله عليه وآله، القدوة الأعظم في تحمّل المسؤولية والنهوض بها، في ترسيخ قيم الحق، وفي تجسيد الإيمان الحيّ. فالإيمان برسول الله ليس كلمةً تُقال، بل ولاءٌ، ومحبة، واتباع، واقتداء، واستشعار لعظمة النعمة التي امتنّ الله بها على البشرية.
لقد جاء النبي والإنسانية على شفا حفرةٍ من النار، والجاهلية تضرب في الأرض فسادًا وضياعًا. كان العالم غارقًا في الشرك والوثنية، والأخلاق في انهيار، والبشرية أسيرة العبودية لغير الله. لولا أن بعث الله نبي الأمة، لظلّت الإنسانية في هاويةٍ سحيقة من الانحطاط. القرآن وصف تلك اللحظة الحاسمة بقوله: {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}. لقد أنقذ البشرية من مصير مظلم، وأخرجها إلى نور القسط والعدل.
وما رسالة النبي الخاتم عليه وآله الصلاة والسلام إلا رحمة، كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}. رحمة تحيا بها النفوس إن هي استجابت لهديها، رحمة تعيد للإنسان صفاءه وفطرته، وتطهّر المجتمع من رجس الظلم والعدوان.
لقد كانت توجيهاته كلها رحمة: أمر بالعدل، نهي عن الظلم، دعوة إلى التعاون على البر والتقوى، بناء لمجتمع التكافل، احترام لكرامة الإنسان، وتربية على مكارم الأخلاق.
هذه الرحمة لم تكن شعارات نظرية، بل ممارسة عملية جسدها النبي الأعظم في كل تفاصيل حياته: في صبره وجهاده، في زهده وعدله، في صدقه ورحمته، في ثباته أمام الأزمات، حتى أرسى للإنسانية معالم الصراط المستقيم، وأسس لمجتمع ينهض على العدل، ويحصّن نفسه بالقوة، ويقاوم الطغيان.
واليوم، وقد عادت الجاهلية بأبشع صورها، جاهلية تفوق الأولى ظلمًا وفسادًا، فإن الأمة لن تستعيد قوتها ومكانتها إلا بالعودة إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله: إلى رسالته، إلى قدوته، إلى نهجه القرآني. تلك العودة تعني التزكية، تعني إحياء مكارم الأخلاق، تعني الثبات في وجه التحديات، تعني تقديم النموذج الإيماني الذي قدّمه الأنصار الأوائل: عطاءً وإيثارًا، شجاعةً وصمودًا، حبًّا لله ولرسوله فوق كل محبوب.
وهنا يبرز اليمن كنموذج متجدد، كما كان أجداده الأنصار، إذ يثبت للعالم أن الارتباط الصادق برسول الله صلوات الله عليه وآله يولّد رجال مواقف، يكثرون عند الفزع ويقلّون عند الطمع، رجالًا لا يعرفون الذل ولا ينحنون أمام العواصف. إنهم النموذج الحيّ للولاية الصادقة، حيث تكون ولاية النبي أولى بالمؤمن من نفسه.
إن الرسالة اليوم للأمة الإسلامية: هلمّوا إلى نبي الإسلام. هلمّوا إلى قدوته ورسالته، إلى صراطه المستقيم، إلى مكارم أخلاقه، إلى رحمته التي تحيي الأرواح وتبني الأوطان. فبقدر ما نقترب منه ونتشبّث برسالته، نقترب من عزتنا، و قوتنا، و نجاتنا في الدنيا والآخرة. أما الابتعاد عنه فليس إلا سقوطًا في الجاهلية، وعودة إلى الظلمات، وانحدارًا نحو الهزيمة والضياع.