hajjahnews

شهادات وبرقيات تفضح الهالك عفاش.. وهكذا سلّم اليمن لواشنطن ووضع الدولة اليمنية تحت رحمة الوصاية الأمريكية

تقرير

لم تكن تبعية الهالك علي عفاش للإدارة الأمريكية تهمة أو شبهة سياسية؛ كانت بنية حكم كاملة قامت على إخضاع القرار اليمني لإملاءات الخارج. لم تكن العلاقة تنسيقًا ولا تحالفًا، بل علاقة سيّدٍ يفرض ووكيلٍ يطيع. واشنطن كانت مركز القرار، وصنعاء في عهد عفاش لم تكن سوى مكتب تنفيذ لطلبات البنتاغون والـCIA: ضربات جوية تُنفذ بلا سيادة، معلومات تُسلّم بلا قانون، وجيش يُعاد توجيهه لخدمة خرائط أمريكية داخل اليمن وخارجها. لقد حوّل الرجل القصر الجمهوري إلى غرفة ملحقة بالمقرّ الأمريكي، وألغى معنى الدولة حين أصبح مستعدًا لـ”القتال على ظهر الدبابة الأمريكية” ضد شعبه لا ضد أعدائه.

وما تكشفه الوثائق الأمريكية والبرقيات السرية ليس تفاصيل عابرة، بل اعترافات صريحة تُثبت مشروع خيانة مكتمل الأركان؛ مشروعٌ باع السيادة، وشرعن التدخل العسكري، وغسّل جرائم الطائرات الأمريكية ببيانات رسمية كاذبة. بهذا المستوى من الانحدار، لم يعد النظام السابق مجرد سلطة فاسدة، بل تحوّل إلى قناة مفتوحة للهيمنة الأمريكية في قلب اليمن. وهنا تبدأ مهمة هذا التقرير: تفكيك تلك التبعية، وفضح الخائن الذي قدّم وطنًا بأكمله كهدية سياسية لواشنطن.

عندما خاطب العميل سيده بلغة العبودية

في قلب تلك المرحلة التي كانت تتحرك فيها واشنطن داخل اليمن بثقة قوةٍ تُعامل البلاد كفضاء مستباح، جاءت البرقية السرية الصادرة عن سفارة الولايات المتحدة في صنعاء لتقدّم الدليل المكتوب على حجم الهيمنة التي فرضتها الإدارة الأمريكية على القرار السياسي والعسكري لنظام الهالك علي عفاش. فالبرقية، المؤرخة في يناير 2010، لا تصف اجتماعًا بروتوكوليًا بين رئيس دولة وقائد عسكري، بل توثّق مشهدًا فاضحًا لميزان القوى الحقيقي: جنرال أمريكي يُملي، وزعيم الخيانة يقدّم التعهدات بلا نقاش.

نصّ البرقية، التي سرّبتها “ويكيليكس”، يورد حرفيًا تعهّد الهالك عفاش لبتريوس بأنه “سيكون على ظهر الدبابة” الأمريكية في عمليات ما يسمّى بـ”مكافحة الإرهاب”. هذا التعهّد لم يكن زلة لسان، بل إعلانًا رسميًا بأن السيادة العسكرية لليمن باتت تحت الوصاية المباشرة لواشنطن. فالحديث عن “الدبابة” ليس استعارة بل توصيف مباشر لعمليات قتالية أمريكية كانت تُنفَّذ داخل الأراضي اليمنية، وفي مقدمتها ضربات الطائرات بدون طيار التي بدأت تتوسع منذ 2009، وفق ما تثبته سجلات لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي.

الوثيقة تكشف أيضًا مستوى الانصياع؛ إذ طلب الجانب الأمريكي مرونة كاملة في المجال الجوي اليمني، فبادر زعيم الخيانة بالموافقة دون الرجوع لأي مؤسسة تشريعية أو أمنية. وتؤكد البرقية أن النظام لم يكتفِ بفتح الأجواء، بل وافق كذلك على تضليل الرأي العام عبر نسب الضربات الأمريكية إلى “القوات الجوية اليمنية”، وهو التلاعب الذي تكشفه لاحقًا التحقيقات حول مجزرة المعجلة التي راح ضحيتها عشرات المدنيين.

وتعضد هذه الشواهد وثائق أخرى صدرت بين 2007 و2011 تُظهر أن العلاقة لم تكن شراكة أمنية، بل وكالة كاملة لإدارة أمريكية تتحكم بالمشهد اليمني. تقارير رسمية أمريكية تحدثت عن غرف عمليات مشتركة داخل صنعاء، وعن تدفق مباشر للمعلومات الاستخباراتية من أجهزة النظام إلى وكالة الـCIA، وعن دعم لوجستي مشروط بالحصول على ملفات أمنية تفصيلية تشمل أسماء ومواقع وبيانات مواطنين يمنيين. هذه المعطيات تكشف أن الهالك عفاش سلّم أدوات الدولة كلها—الحربية والأمنية والاستخباراتية—للإدارة الأمريكية، مقابل حماية خارجية تُبقيه على رأس السلطة.

وهكذا، لا تبدو برقية السفير سيش مجرد وثيقة سياسية عابرة؛ إنها الشاهد الأكثر وضوحًا على أن القرار اليمني في تلك المرحلة كان واقعًا تحت الهيمنة الأمريكية المباشرة، وأن رأس النظام كان يؤدي دوره كموظف منفذ في بنية قيادة لا تنطلق من صنعاء، بل من غرف العمليات الأمريكية. لقد خُلِعت الأقنعة في تلك الوثيقة: اليمن تحت وصاية قوة أجنبية، وزعيم الخيانة مجرّد منفّذ يضع توقيعه على ما يُطلب منه.

كيف تحوّل القصر الجمهوري إلى فرع للبنتاغون

ما كشفته برقية السفير سيش لم يكن لحظة عابرة، بل مؤشرًا واضحًا على مرحلة متقدمة من الخيانة: من مجرد اعتراف شخصي بالانصياع للجنرال الأمريكي، إلى تحويل الدولة بأكملها إلى أداة تنفيذية للأجندة الأمريكية. فالخطوة التالية كانت بناء هيكلية كاملة للتبعية داخل القصر الجمهوري وفي مؤسسات الدولة، بحيث يصبح كل قرار استراتيجي تابعًا مباشرة لتعليمات واشنطن. لم يعد الأمر مجرد تهاون أو تواطؤ، بل سياسة يومية مُطبَّقة: من توسيع عمليات الطائرات بدون طيار إلى إعادة نشر الجيش وفق أولويات خارجية، كل ذلك ضمن آلية منظمة لتحويل اليمن إلى فرع للبنتاغون.

ما أسميه “التشريع السري للتبعية” لم يكن قوانين أو دستورا مكتوبا، بل سلسلة من موافقات شفوية، اجتماعات مغلقة، وتبادل معلومات سرية. الوثائق الأمريكية المسربة بين 2007 و2011 تظهر غرف عمليات مشتركة في صنعاء، وتدفق معلومات استخباراتية مباشرة من الأجهزة اليمنية إلى الـCIA، إضافة إلى تسليم قوائم مواطنين ومواقعهم لتسهيل العمليات الأمريكية. هذه الإجراءات لم تكن تعاونًا تكتيكيًا، بل نظام كامل لتحويل الدولة اليمنية إلى امتداد لمصالح واشنطن، حيث القيادة السياسية والعسكرية لم تعد تستند إلى المصلحة الوطنية، بل إلى ما يطلبه القائد الأمريكي.

أما آلية التنفيذ، فكانت فعّالة ومرعبة في بساطتها. الجيش اليمني، الذي كان من المفترض أن يحمي الحدود والمواطنين، أصبح أداة لتطبيق ضربات جوية تحت إشراف أمريكي كامل. المدنيون الذين سقطوا بطائرات بلا طيار لم يكونوا مجرد ضحايا عشوائية، بل علامات على فقدان الدولة لقدرتها على حماية شعبها، وعلى تحويل السلطة إلى نظام يُقدم أبناء الوطن كأوراق على طاولة وكالة أجنبية. السجون السرية، الاعتقالات التعسفية، وتسليم المواطنين للأجهزة الأجنبية كانت سياسة ممنهجة نتجت مباشرة عن الهيكلة التي أسسها القصر الجمهوري لتلبية احتياجات واشنطن.

البرقيات والوثائق الرسمية تثبت أن هذا النظام لم يكتفِ ببيع السيادة، بل صنع الظروف لتمرير كل خرق لحقوق الإنسان تحت غطاء رسمي، وحوّل الجرائم إلى إجراءات “يمنية” وهمية، بينما هي في الواقع تنفيذ مباشر لأوامر الإدارة الأمريكية. وهكذا، أصبح القصر الجمهوري أكثر من مكان اتخاذ القرار؛ تحوّل إلى مسرح للهيمنة والعبودية السياسية، حيث الرئيس أصبح موظفًا أمنيًا لدى الإدارة الأمريكية، والبلاد تحولت إلى مختبر حي لتجربة السياسات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية دون أي مساءلة.

حين تحوّل اليمن إلى ساحة اختبار للسلاح الأمريكي

انحناء زعيم الخيانة علي عفاش أمام الجنرال بتريوس لم تكن مجرّد اعتراف سياسي؛ بل كانت المفتاح الذي يشرح كيف انتقلت الهيمنة الأمريكية من غرف القصر إلى تضاريس البلاد نفسها. فالتنازل عن القرار لم يبقَ حبيس الاجتماعات السرية، بل ترجمته واشنطن سريعًا على الأرض، مستغلة هشاشة النظام وارتهانه الكامل لها، لتفرض حضورًا عسكريًا وأمنيًا غير مسبوق، حوّل اليمن—بجغرافيته الممتدة من المهرة شرقًا إلى صعدة شمالًا—إلى ساحة اختبار مفتوحة لقدراتها القتالية الاستخباراتية.

أولى الإشارات ظهرت قبل أشهر فقط من لقاء بتريوس، في ضربة المعجلة – أبين (ديسمبر 2009)، التي التُقطت تفاصيلها عبر الأقمار الصناعية وكشفتها لاحقًا تقارير تحقيق دولية. الضربة حملت توقيع صاروخ توماهوك الأمريكي، واستهدفت منطقة مدنية خلّفت عشرات القتلى من النساء والأطفال. ومع ذلك، سارع النظام إلى إصدار بيان رسمي كاذب نسب الهجوم إلى “القوات الجوية اليمنية”. هذا التزوير لم يكن مجرد تلاعب إعلامي، بل كان الدليل الأول على أن النظام أصبح جزءًا من آلية التمويه الأمريكية، مستعدًا لإعادة كتابة الحقيقة من أجل حماية العمليات الأجنبية التي تُنفّذ على أرض اليمن.

تتابعت المؤشرات بعد ذلك بشكل أوضح. لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي أوضحت أن اليمن أصبح إحدى أكثر ساحات العمليات السرية نشاطًا خارج العراق وأفغانستان، خصوصًا في الضربات بالطائرات بدون طيار. هذه العمليات لم تكن تُدار بتنسيق مع الجيش اليمني كما كان يروّج النظام، بل كانت تُدار حصريًا من قبل الـCIA والقيادة المركزية الأمريكية، عبر غرف عمليات مشتركة داخل صنعاء تم إنشاؤها بموافقة مباشرة من عفاش نفسه. لقد منح الأمريكيين تفويضًا شاملًا يشمل المجال الجوي، وصولًا إلى قواعد بيانات الأجهزة الأمنية وتقارير انتشار القوات.

لم يتوقف الأمر عند الطائرات. كشفت تقارير غربية عن نشاط فرق من القوات الخاصة الأمريكية في شبوة والمهرة وحضرموت، تقوم بمهام استطلاع وجمع معلومات، وتشرف على عمليات ميدانية كانت تُنفّذ دون علم معظم مؤسسات الدولة. هذا التمدد كان يستفيد من الانقسام الداخلي الذي زرعه النظام عمدًا في الأجهزة الأمنية، بحيث تصبح بعض الوحدات “مرتبطة فعليًا” بالجانب الأمريكي أكثر من ارتباطها بقيادة الدولة نفسها.

الأخطر أن هذه الأنشطة لم تكن عشوائية أو مؤقتة؛ كانت جزءًا من استراتيجية أمريكية متكاملة اعتمدت على ثلاثة مسارات واضحة:

السيطرة الكاملة على المجال الجوي من خلال التفويض السري الذي حصلت عليه عبر القصر الجمهوري.

إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية عبر تدريب وتسليح وحدات مختارة ترتبط مباشرة بالمؤسسات الأمريكية، مثل مكافحة الإرهاب والحرس الرئاسي.

تعزيز النفوذ الاستخباراتي عبر إنشاء مراكز معلومات تعمل بشكل مستقل عن الدولة، وتستلم تقاريرها من ضباط يمنيين يعملون ضمن شبكة كشفتها وثائق مسرّبة لاحقًا.

بهذه المنهجية تحوّلت اليمن من دولة ذات سيادة إلى منطقة عمليات مفتوحة: سماءٌ تتحرك فيها الطائرات الأمريكية دون إذن، وأرضٌ تُختبر عليها الأسلحة بعيدًا عن أي قانون، ومجتمعٌ تُجمع بياناته كما تُجمع بيانات مختبر تجريبي. وما كان لهذا المشروع أن ينجح لولا أن عفاش—كما كشفت البرقية في المحور الأول، وكما برهنت الوثائق في المحور الثاني—فتح الباب سياسيًا وأمنيًا، وسلم الجغرافيا اليمنية كما سلّم قرارها، لتصبح امتدادًا مباشرًا لمصالح واشنطن.

ثمن الخيانة وتركة الخراب.. الحساب الذي دفعه اليمن ويستمر دفعه الشعب

لم تكن تبعية الهالك علي عفاش للإدارة الأمريكية مجرد قرار سياسي، بل سياسة متكاملة حولت اليمن إلى ضحية مستمرة. الوثائق الأمريكية المسربة والبرقيات السرية تظهر أن تسليم القرار للـCIA والبنتاغون لم يقتصر على المجال العسكري، بل امتد إلى كل مؤسسات الدولة، فانهارت منظومة الأمن، وتفككت قدرات الجيش، وتحوّل القضاء إلى أداة شكلية لا تحمي حقوق المواطنين. النتائج الميدانية كانت مأساوية: ضربات الطائرات بدون طيار التي بدأت منذ 2009 خلفت مئات القتلى المدنيين، بما في ذلك نساء وأطفال، وفق تقارير الأمم المتحدة ولجنة الاستخبارات الأمريكية نفسها، بينما النظام كان يبرّر هذه الضربات بنسبها زورًا إلى “القوات الجوية اليمنية”.

التبعية استمرت في تفكيك الدولة على الأرض. القصر الجمهوري أصبح مركزًا لتنسيق العمليات الأمريكية، بينما مناطق كاملة مثل المهرة، حضرموت، وشبوة تحولت إلى ساحات اختبار للسلاح والتجارب الاستخباراتية. تقارير غربية وأمريكية كشفت عن وجود فرق خاصة أمريكية، وعن مراكز استخبارات مستقلة تديرها واشنطن، وبيانات المواطنين اليمنيين تُسلَّم بلا سند قانوني، وهو ما أدى إلى اعتقالات تعسفية وسجون سرية، وتهجير قسري، وانعدام الحماية لأي حقوق أساسية. هذه السياسة لم تُنفذ بسرية فقط، بل تحت غطاء رسمي يمنح الأمريكيين حرية كاملة على الأرض، في الوقت الذي ظل فيه الهالك عفاش يروج لنفسه كحامي للشعب، بينما كان في الواقع موظفًا سياسيًا وعسكريًا للهيمنة الأمريكية.

والثمن الذي دفعه الشعب لم يتوقف عند المدنيين القتلى أو المدمَّر من البنية التحتية. الاقتصاد انهار بسبب سياسات التبعية واحتكار الدعم الخارجي، المؤسسات التعليمية والصحية تدهورت، وغياب السيادة جعل اليمن هدفًا دائمًا للابتزاز الخارجي، مما انعكس على الأجيال القادمة. كل هذه النتائج تؤكد أن الخيانة كانت مشروعًا متكاملًا، ليس فقط للهيمنة الأمريكية، بل لإعادة رسم معالم الدولة اليمنية بالكامل، والعبء الأكبر ظلَّ على الشعب، الذي ما زال يدفع ثمن وطن قدّم كهدية سياسية للآخرين، تاركًا وراءه إرث خراب مستمر حتى اليوم.

من عبودية القرار إلى ثورة السيادة

بعد عقود من التبعية والهيمنة الأمريكية على القرار اليمني، جاءت ثورة 21 سبتمبر لتعيد لليمنيين حقوقهم المسلوبة وتعيد للدولة مفهوم السيادة الكامل. هذه الثورة لم تكن مجرد احتجاج شعبي، بل كانت إعادة ترتيب للأولويات الوطنية، وإعلانًا صريحًا بأن اليمن لن يكون بعد اليوم ملعبًا لتجارب الآخرين، ولا أداة لتنفيذ أجندات خارجية. القرارات الأمريكية التي فرضت عبر البرقيات والهيكلة السرية للقصر الجمهوري باتت تاريخًا مظلمًا يذكّر بالثمن الباهظ الذي دفعه الشعب، لكن الثورة وضعت نهاية لهذه الحقبة، واستعادت الإرادة الوطنية على جميع الأصعدة.

اليوم، السيادة ليست شعارًا، بل واقع يُطبَّق على الأرض. ثورة 21 سبتمبر أعادت للمؤسسات دورها، وفصلت القرار الوطني عن الوصاية الأجنبية، مؤكدة أن الشعب اليمني هو صاحب القرار الأخير في سياساته، وأمين على أراضيه وحقوقه. وما كشفه هذا التقرير من تبعية عميقة وخيانة ممنهجة يجعل من الثورة لحظة فاصلة في تاريخ اليمن الحديث: لحظة استعادة الدولة، استعادة الكرامة، واستعادة القدرة على رسم مستقبل مستقل بعيدًا عن أي أجندة خارجية، وعلى رأسها الهيمنة الأمريكية التي هيّأت لها عقود من الانصياع والتخلي عن السيادة.