ربيع النقيب
في زمن تتغيَّر فيه أدوات الهيمنة كما يتغيَّر شكل الطائرات المسيَّرة، يظل جوهر الصراع واحدًا: إرادَة الشعوب في مواجهة مشاريع السيطرة التي تحاول القوى الاستعمارية فرضها عبر القوة الناعمة حينًا، وعبر السيف والنار حينًا آخر.
وما تشهده المنطقة اليوم ليس سوى امتداد لسلسلة طويلة من محاولات كسر إرادَة الإنسان العربي الحر، إلا أنَّ الشعوب أثبتت مرة بعد أُخرى أنَّها الرقم الأصعب، وأنَّ الوعي المقاوم أقوى من ترسانة التكنولوجيا مهما تعقَّدت.
لقد حاولت أدوات الاحتلال في المحافظات الجنوبية أن تشعل صراعًا داخليًّا ظنَّته ورقة ناجحة لتدمير ما تبقى من نسيج اجتماعي، فعملت على تغذية الانقسامات، وتمويل التشكيلات المسلحة المتناحرة، وخلق بيئة فوضى تعطي الرياض وأبوظبي وكَيان الاحتلال القدرة على إدارة المشهد من بعيد.
غير أنَّ هذه الأدوات، رغم ضجيجها الإعلامي والعسكري، لم تستطع إخفاء يد المحتلّ التي تدير هذه الحسابات.
فمشهد الصراع بين الفصائل هناك ليس سوى إعادة إنتاج لسياسة “فرِّق تسُد” التي اعتمدتها بريطانيا في عدن خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، حين كانت تدير الصراعات المحلية لخدمة مشاريعها في الميناء والبحر.
يحمل التاريخ شواهد عديدة على فشل هذه السياسات، فحين حاولت الولايات المتحدة في العراق عام 2006 إدارة التوازن بالميليشيات الموازية، انفجرت الأوضاع بشكل خرج عن سيطرتها.
وحين ضخَّت واشنطن ملايين الدولارات لدعم مجموعات الحرب بالوكالة في سوريا، تحوَّل المشهد إلى فوضى ارتدَّت على داعميها.
اليوم يتكرّر المشهد ذاته في المحافظات الجنوبية، حَيثُ يتبدَّل اللاعبون ولكن العقلية ذاتها: الاحتلال يصنع الأدوات ويستنفدها ثم يستبدلها، دون اعتبار لدماء الناس ولا لسيادة الأرض.
المؤشرات الميدانية والاقتصادية تكشف أن المستفيد الأكبر من استمرار الصراع هو (إسرائيل)، الذي ينظر إلى السواحل اليمنية بوصفها عقدةً استراتيجية لبسط نفوذه في البحر الأحمر وتأمين خطوطه ا التجارية.
هذا الهدف موثَّق في دراسات مراكز أبحاث إسرائيلية، أبرزها ورقة “معهد دراسات الأمن القومي” التي أشَارَت منذ 2018 إلى ضرورة تعزيز “الحماية الإقليمية” للممرات البحرية عبر “شراكات أمنية” في القرن الإفريقي والسواحل الجنوبية لليمن.
وهذا ما يفسِّر الإصرار على إبقاء المحافظات المحتلّة في حال من الفوضى التي تتيح لكيان الاحتلال إدخَال خبرائها ومستشاريها تحت غطاء التحالف.
ورغم كُـلّ هذا، يتعامل الشعب مع هذه التحديات بروح تتجاوز حدود الجغرافيا.
فالوعي الذي تصنعه التجاربُ القاسية ولَّد قناعةً راسخة بأن المعركة لم تعد بين فصائل صغيرة، بل بين مشروعين: مشروع يريد للإنسان أن يبقى تابعًا، ومشروع يريد له أن يكون حرًا يقرّر مصيره.
ولهذا، كلما حاولت هذه القوى كبح المسار التحرّري، اشتعلت روح المقاومة أكثر، كما حدث في معارك الساحل الغربي حين فشل الرهان على تفكيك الجبهة الداخلية، وكما حدث في مأرب حين تحوَّلت المعركة من مُجَـرّد صراع محلي إلى معركة وعي وردِّ اعتبار.
إن اللحظة التي نعيشها اليوم ليست لحظة ضعف، بل لحظة كشف.
فالأقنعة سقطت، والتحالف لم يعد قادرًا على تبرير فشله ولا على تغطية أهدافه الحقيقية.
والرهان الآن على الشعب الذي أثبت في كُـلّ المحطات أن إرادته أقوى من صفقات المرتزِقة، وأنَّه لا يمكن أن يخضع لمعادلات تقسم الأرض وتوزع الولاءات كما تُقسَّم عقود النفط والموانئ.
المعركة طويلة، لكن الشعوب لا تُهزم حين تعرف بوصلتها، ولدى أبناء اليمن بُوصلة واضحة لا تُخطئ: الأرض للجميع، والكرامة للجميع، والاحتلال لا مستقبل له مهما بدت أدواته كثيرة.
وفي مواجهة هذا الواقع، يبقى الوعي سلاحًا، والتعبئة شعبيّة، والإرادَة أكبر من كُـلّ مشاريع الهيمنة.
فمَن يملك الإيمان بقضيته لا يخشى كثرة العتاد، ومَن يحمل روح الوطن لا يساوم، ومَن يدرك أن المعركة هي معركة وجود، يدافع عن الأرض كما تُدافع الروح عن الجسد.
