hajjahnews

اليمن ومسيرات الوعي

منذ منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، كانت ملامح الانقسام العربي تجاه المقاومة تتشكل بوضوح. فحين نفّذ حزب الله اللبناني في 12 يوليو 2006 واحدة من أنجح عملياته ضد الكيان الصهيوني، تمثّلت في أسر جنديين إسرائيليين على الحدود اللبنانية، انكشف عمق التباين بين الشعوب العربية وأنظمتها. فبينما عمّت موجة فرح عارمة الشارع العربي، خرجت العواصم المطبّعة ببيانات إدانةٍ واستنكار، ووصفت الرياض العملية بأنها «مغامرة غير مسؤولة»، في موقفٍ عكس انحياز الأنظمة الكامل إلى العدو.

تبع ذلك الموقف السعودي ـ المصري بيانٌ مشترك يهاجم المقاومة ويُحمّلها مسؤولية التصعيد، وهو ما استغلّته «إسرائيل» ذريعةً لشنّ حربٍ مدمّرة على لبنان دامت 33 يوماً، خلّفت أكثر من 1200 شهيد ودمّرت آلاف المنازل. كانت تلك الحرب أول اختبارٍ كبيرٍ لمفهوم «الشرعية» الذي روّج له النظام الرسمي العربي لتبرير خذلان المقاومة.

لكن تلك اللحظة لم تكن نهاية الخذلان، بل بدايتها. ففي أواخر عام 2008، حين شنّ العدو الصهيوني عدوانه الشهير على غزة تحت مسمى «الرصاص المصبوب»، تكررت المأساة نفسها. أعلنت وزيرة خارجية الكيان حينها تسيبي ليفني من القاهرة – بكل صفاقة – أن «إسرائيل لن تسمح باستمرار سيطرة حماس»، وكأنها تتحدث باسم محور عربي بأكمله.

ومرة أخرى، غاب الموقف الشعبي العربي الفاعل، ليبدو الشارع وكأنه ظلٌّ للموقف الرسمي الخانع، في مشهدٍ جسّد تحوّل الأنظمة من التواطؤ إلى التحالف العلني مع العدو.

استمرّ هذا النهج حتى اللحظة التي سُمّيت فيها بـ»صفقة القرن»، والتي هدفت إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر بوابة التطبيع، بدعمٍ سعوديٍ وإماراتيٍ مباشر. وباتت حركات المقاومة محاصرة سياسيًا وإعلاميًا، تُحمَّل مسؤولية كل حربٍ وعدوان، وتُطالب بالتنازل تحت شعار «التهدئة الإنسانية».

لكن المشهد تغيّر جذرياً مع عملية طوفان الأقصى في أكتوبر 2023، إذ ظهر لأول مرة منذ عقود أن الشارع العربي لم يعد خاضعاً بالكامل لتوجيهات الإعلام الرسمي أو لابتزاز «الورقة الإنسانية». فبينما أظهرت الأنظمة تردداً أو انحيازاً للكيان الصهيوني، تحركت الشعوب بقوة، وفي مقدمتها الجماهير اليمنية.

كانت صنعاء أول العواصم العربية التي امتلأت بملايين المتظاهرين في اليوم نفسه لانطلاق العملية، لتصبح المسيرات اليمنية نقطة تحوّل في المزاج الشعبي العربي. لم تكن تظاهرات عاطفية عابرة، بل تحركاً منظماً واعياً عبّر عن موقفٍ استراتيجي يرى في معركة غزة امتداداً لمعركة الأمة ضد المشروع الأمريكي-الصهيوني.

ومن تلك اللحظة، تحولت المسيرات الأسبوعية في اليمن إلى ما يشبه العمود الفقري للحاضنة الشعبية للمقاومة. فبينما انشغل الإعلام العربي بتبرير الجرائم الصهيونية أو الدعوة إلى «حلول إنسانية»، رفعت الجماهير اليمنية شعار الإسناد العملي، عبر المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الأمريكية، وتفعيل ورقة البحر الأحمر، في خطوة كسرت جدار الصمت العربي وأربكت دوائر القرار في تل أبيب وواشنطن.

لقد أوجدت تلك المسيرات توازناً ميدانياً وسياسياً غير مسبوق، فكان لها أثر مباشر في تثبيت خطاب المقاومة وتحصين الرأي العام ضد دعايات التطبيع. والأهم من ذلك، أنها أعادت الاعتبار إلى الشارع العربي كمصدرٍ للشرعية الثورية، بعد أن حُوصر لسنوات تحت سطوة الأنظمة التابعة، وإذا كانت عملية طوفان الأقصى قد فجّرت الميدان العسكري، فإن اليمن فجّر الوعي العربي. فالمسيرات لم تكن مجرد استعراضٍ تضامني، بل بنية مقاومة شعبية متكاملة، أنتجت ضغطاً معنوياً وسياسياً، وأعادت القضية الفلسطينية إلى مركز الوعي الجمعي بعد عقود من محاولات الإخماد.

اليوم، لم يعد السؤال عن «شرعية المقاومة»، بل عن مستقبل الكيان الصهيوني نفسه. ومع اتساع نطاق المواجهة البحرية والبرية، برز الدور اليمني بوصفه أحد أهم روافد المعركة الكبرى التي لم تعد محلية ولا مؤقتة. وهكذا، أكدت الجماهير اليمنية أن الأمة قادرة على الفعل متى استعاد الشارع زمام المبادرة، وأن التطبيع العربي – بكل زخارفه – لا يمثل إلا عزلة الحكام عن شعوبهم.

بقلم/ محمد محسن الجوهري*