بقلم ـ فهد شاكر أبوراس
بعد 743 يومًا من العدوان الصهيوني على قطاع غزة لم يكن دخول اتّفاق وقف العدوان حيز التنفيذ مُجَـرّد تحول تكتيكي عابر، بل كان لحظة حقيقية كشفت فيها آلة الاحتلال عن انهيارها الاستراتيجي، واعترفت علنًا بأن حساباتها قد تداعت، ورهاناتها على الضغوط الأمريكية قد خابت، وأن “الثمن الباهظ” الذي دفعته قد فرضته إرادَة المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني.
لقد مثَّل هذا الاتّفاق صدمة كاسحة للدوائر السياسية والإعلامية والعسكرية الصهيونية، التي بدأت تدرك أن النتائج تمثل مكاسب تاريخية للمقاومة بحيث انهارت كُـلّ الحسابات التي بنيت على افتراض إمْكَانية سحق المقاومة أَو تفكيكها، بدا جليًّا أن رهانات الاحتلال على الضغوط الأمريكية المكثّـفة لم تؤد إلى تحقيق أيٍّ من الأهداف المعلنة للحرب، لا تفكيك حماس ولا نزع سلاحها، ولا تهجير سكان القطاع، وهو ما كشف الخواء الاستراتيجي للكيان أمام نفسه وأمام حلفائه، لقد أظهر الاتّفاق الخريطة الجديدة لموازين القوى في المنطقة التي رسمتها المقاومة وفرضت شروطها وخرجت من المعركة أكثر قوة وتماسكًا.
إن البنود التي تضمنها الاتّفاق تمثل اعترافا صريحًا بانتصار إرادَة المقاومة، حَيثُ يشمل الإفراج عن ما يصل إلى ألفي أسير فلسطيني مقابل عشرات الأسرى الإسرائيليين فقط، وهي صفعة قوية للرواية الأمنية الصهيونية التي طالما روجت لقدرتها على حماية جنودها.
لقد تحول ملف الأسرى من ورقة ضغط بيد الاحتلال إلى قوة تفاوضية كبرى بيد المقاومة، حَيثُ بات الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين يمثل قيمة سياسية وعسكرية كبيرة تعيد الحياة للحركة الوطنية وتعيد الاعتبار لنضالات الأسرى داخل سجون الاحتلال.
كما أن بنود الانسحاب الإسرائيلي من مدينة غزة والشمال ورفح وخان يونس، وفقًا للاتّفاق، تمثل اعترافا ضمنيًّا بأن الاحتلال لم يستطع الاحتفاظ بأيٍّ من هذه المناطق رغم كُـلّ القوة العسكرية التي بذلها، وهو ما يفسر ذلك الشعور بالندم والقلق الذي يجتاح الدوائر الصهيونية التي بدأت تتساءل عن جدوى كُـلّ التضحيات البشرية والمادية التي قدمتها خلال عامين من الحرب دون تحقيق أي مكاسب استراتيجية تذكر.
ولم يكن هذا التحول ليحدث لولا العوامل الإقليمية المتصاعدة التي شكلت ضغوطًا على كيان الاحتلال، حَيثُ شكلت محاور الاشتباك المتعددة من لبنان إلى اليمن والعراق وُصُـولًا إلى إيران عاملًا حاسمًا في إفقاد الاحتلال هامش المناورة ودفعه نحو القبول بالاتّفاق.
لقد أدرك المحللون الصهاينة أن الضغوط المتصاعدة على هذه الجبهات المتعددة لم تترك للكيان خيارًا سوى القبول باتّفاق لا يحقّق أهدافه، بل يعزز من موقع خصومه.
وقد ظهر هذا جليًّا في التصريحات التي حذرت من أن هذه الجهات الإقليمية ستبقى محط استهداف وتوتر، مع دعوات لمواصلة العمليات ضدها، لكن هذه الدعوات جاءت وكأنها صرخة في واد، فالخريطة الجديدة للصراع فرضت واقعًا جديدًا أصبحت فيه القوى الإقليمية الداعمة للمقاومة شريكًا أَسَاسيًّا في صنع المعادلات الجديدة، وهو ما لم يعد ممكنًا تجاهله أَو تجاوزه بأي حال من الأحوال.
في المقابل، بدأت تظهر في الأروقة السياسية والإعلامية الصهيونية دعوات محمومة لمحاولة احتواء ما سمَّته “تهديد ترسانة المقاومة”، من خلال خطوات داخلية وخارجية تشمل مطلب محاولات تفكيك قدرة حزب الله في لبنان والتعاون الأمني مع الجيش اللبناني، كما شدّد بعضهم على ضرورة عدم السماح لإيران بالتقدم في برامجها الإقليمية.
لكن هذه الدعوات جاءت مشوبة بالشك والارتباك، حَيثُ رصدت تقارير متباينة مناقشات حول مدى فعالية مثل هذه المقاربات في ظل الخريطة الجديدة لموازين القوى، التي أصبحت فيها المقاومة طرفًا رئيسيًّا في صنع القرار الإقليمي.
لقد أدرك الكثيرون في الدوائر الصهيونية أن المراهنة على الضغوط الأمريكية وحدها لم تعد مجدية، وأن التعاطي مع المشهد الجديد يتطلب إعادة حسابات كاملة، ليس فقط على المستوى العسكري، بل على مستوى الرؤية الاستراتيجية للصراع برمته.
لقد مثل اتّفاق وقف العدوان نقطة تحول جوهرية في المشهد الفلسطيني، حَيثُ امتدت الفرحة في غزة وسط حذر من خروقات محتملة، بينما ساد شعور بالصدمة وإعادة احتساب الخسائر السياسية والاستراتيجية في الكيان.
لقد أصبح واضحًا أن الاتّفاق يمثل اعترافًا بإخفاق المشروع الصهيوني في حسم الصراع لصالحه، وأن المقاومة الفلسطينية قد خرجت من المعركة أكثر قوة وتماسكًا، قادرة على فرض شروطها وإملاء إرادتها على آلة عسكرية طالما ادعت التفوق المطلق.
إن الأسئلة الحاسمة حول ما إذَا كان الاتّفاق سيؤسس لتهدئة طويلة المدى أم أنه محطة مؤقتة قبل جولات جديدة من التوتر، تبقى معلقة على قدرة المقاومة على الحفاظ على مكاسبها، واستمرار صمود الشعب الفلسطيني، وتوازنات القوى الإقليمية التي أثبتت فاعليتها في إرباك حسابات الاحتلال ودفعه نحو القبول بما كان يرفضه.
لكن اليقين الوحيد الذي خلفه هذا الاتّفاق هو أن المقاومة الفلسطينية قد أصبحت لاعبًا استراتيجيًّا لا يمكن تجاوزه، وأن أي حَـلّ للمشكلة لن يكون إلا على طاولتها وبشروطها، وهو الدرس الذي ستبقى الدوائر الصهيونية تدفع ثمن تعلمه لسنوات قادمة.